السبت، ٢٠ ربيع الأول ١٤٣١ هـ

( 9) دمعتان على تنورة الآنسة

السلام عليكم: أعود بعد انقطاع زاد عن سنة..إذ لا زلت راغبة أن أتابع هذا الذكريات..ولو دون تسلسل دقيق

***

لا زلت أعيش صراعاً يتناوب شدة وليناً.. فثمة أمور أخرى كثيرة تشغلني، على رأسها المدرسة التي اعتدت أن أعطيها الاحترام والكثير من الحب أيضاً.
جو الدرس مريح مطمئن، كلنا متشابهات في لباسنا في أحاديثنا في أناشيدنا، فإذا اختلطنا بصديقات المدرسة شعرنا بالاختلاف والغربة، لكنا متميزات بالاجتهاد والستر والأدب، نحن على حق إذ نتبع أوامر الله ونذكره أكثر من الجميع..
لكن لا..أنا لست مثل رفيقات الدرس تماماً، لا أستطيع أن أنجرف مثلهن في عواطفي، لا أستطيع الاستغراق فيما أسمع وفيما أنشد.
ويتكرر لدي ذلك الاعتقاد بأني بنت قاسية القلب، تحتاج إلى الكثير من الصلاة والذكر وأنواع الطاعات حتى يرَّق قلبها.
لكن حادثة عرضت في أواخر الصف الثامن، جعلتني أستبشر وأشعر بغير قليل من البهجة والرضا.

**

كنت مع أبي نحاول العثور على سيارة تعود بنا إلى دمشق، وقد قضينا نهار الجمعة في مصيف مضايا القريب، ربما كانت الأسرة قد سبقتنا، وكان لا بد من عودتنا لأن السبت كان يوم عمل ودراسة.
يزداد الزحام في مثل تلك الأوقات وتندر السيارات.. وكنا ننتقل من رصيف إلى رصيف حين رأيت امرأة تغطي وجهها تكلم أبي.. وإذا به يقول اذهبي معها وأنا سأتدبر نفسي..لما وصلت إلى السيارة وجدت الآنسة..آنسة الدرس في المقعد الخلفي، دعتني إلى جوارها..فلما جلست لا حظت فجأة أن تلك الفسحة ذات الأرصفة التي تنتظر فيها السيارات، تمتلئ بالبنات اللواتي يمكن بسهولة معرفة أنهن من الجماعة نفسها، المعاطف التي تتجاوز الركبيتن قليلاً أو كثيراً، الرؤوس المغطاة إما بمنديل أسود ينسدل على الوجه، أو بأغطية ذات ألوان أخرى تربط من تحت الذقن، إلى جانب طريقة معينة في المشي والحركة..لا زلت أستطيع تمييزها حتى اليوم.
وفهمت أنه كان هنالك نزهة طويلة لبعض الآنسات وبناتهن، اجتماع لم ُأدعَ إليه، لا شك أن الحاضرات على مستوى أعلى، وأهمية أكبر.. لقد قضيت يومي ألهو وآكل وأتمشى.. بينما عدد كبير من البنات مجتمعات في البلدة نفسها حول الآنسات يقرأن القرآن ويذكرن الله وينشدن الأناشيد التي تملؤهن غبطة وراحة نفس..
لا أذكر أني تبادلت الكثير من الكلام مع الآنسة التي أنقذتني من التأخير، بل ساد الصمت معظم الوقت الذي يقارب الساعة.. لكن أفكاري لم تخرج عن ذلك الإطار: كم أنا مقصرة، أنا سيئة جداً، ومع ذلك يرسل الله لي الآنسة فأجلس إلى جوارها، هذا شيء تتمناه كثيرات، فلم لا أشعر بأنه يبهجني كثيراً، لمَ أجد مشاعري عادية؟ بل إن الخجل والاضطراب هو الغالب علي..كيف أصبح بنتاً تقية مستسلمة.. وبدأت من جديد أستعرض ذنوبي الكثيرة..وأكثرها وطأة تأخير الصلوات، وعدم الاجتهاد أكثر في حفظ ما حددته لنفسي من القرآن، وقراءة الروايات وقصص المغامرات التي أخفيها عن أبي وأحياناً أمي.. تصاعدت وتيرة اللوم وتصاعد إحساس غامر بالضعف والحزن والندم وقلة القيمة..
وقريباً جداً من بيتي وجدت نفسي ألقي برأسي على حضن الآنسة، كان معطفها الكحلي يكشف تنورتها الرمادية ذات الكسرات، وهو اللباس الغالب للآنسات بخاصة، كن لا يلبسن إلا البلوزة ذات الكمّ الطويل والتنورة ذات الكسرات التي تخفي كل معالم وتفاصيل الجسم حتى تحت المعطف.. ونشجت..وأفلتت من عيني بضع دمعات..
وكانت ردة فعلها لطيفة وذكية، إذ بعد أن رفعت رأسي بسرعة قالت بصوتها الناعم وبلهجة يمكن أن توصف بأنها تقطر عذوبة ورقة وتفهماً: هكذا تفعلين بتنورتي؟ انظري..
كان هنالك بلل بسيط جداً على التنورة.. توقفت السيارة ونزلت بعد إلقاء السلام..
كنت أريد أن أطير..بل كنت في حال تشبه الطيران، وكان من عادتي أن أقطع المسافة من البوابة الرئيسة إلى باب بيتنا ركضاً، لقد تخففت من عبء كبير، لقد رأت الآنسة دموع ندمي، أنا بنت صالحة تخاف الله إلى درجة أنها تتمنى البقاء دائماً مع آنسة الدرس وزميلات الدرس طول الوقت.
جرعة أو نشوة البهجة تلك لاتدوم في العادة طويلا، ولا شك أني انصرفت بعدها إلى شؤوني، إلى مغامرات طرزان أو سوبرمان، أو قصة استعرتها من المدرسة، أو واجب مدرسي مؤجل.غير أني على الأرجح صليت المغرب بصورة أفضل قليلاً.
كنت أتجاوز الثالثة عشرة قليلاً، وهي تلك السن التي أسميها اليوم( قيد أو تحت الإنشاء) مستخدمة الإنجليزية من باب المزاح: under construction

هناك ٥ تعليقات:

غير معرف يقول...

أهلا بعودتك ....
بانتظار المزيد ..

رشاقة قلم يقول...

يا سلاااام

لقد عادت بسمة كبيرة لي عندما وجدت مقالتك الجديدة :)

لا تطيلي علينا أبدًا..

فأنا أتشوق كثيرا لهذه الذكريات..

أسعد الله كل أيامك


رشاقة قلم :)

جمان يقول...

عودا حميدا يا خالة :)
أعتقد أن ردة فعلك كانت طبيعية جدا في تلك السن. المشكلة حين يتم استغلال هذا العمر وحساسيته الفائقة.

لن أقول أكثر قبل أن اقرأ المزيد.. :)
لا تطيلي الغياب.

غير معرف يقول...

سعدت بعودتك. بانتظار الأجزاء القادمة

فاطمة يقول...

شكرا لرشاقة قلم، ولجمان..ولمن لم تعرف بنفسها، كل الشكر.. أسأل الله تعالى أن يجعل من سطوري إسهاماً في نشر الفائدة، وبعض الوعي.. أتمنى رؤية إضافات أو تساؤلات..الرغبة في التذكر تفقد دفئها وحماسها الذي بدأت به..للأسف الشديد.