سامحيني يا أمي!
ففي تلك الفترة التي أتحدث عنها كان مفهوم البرّ غائماً غائباً في طيّات مزاعمَ يصعب على طفلة أن تدرك أنها يسيّرها الهوى: هوى أن تكوني مع رفيقات الدرس وأخبارهن وضحكاتهن، هوى أن أكون مع ابنة الخالة نراجع القرآن ساعة..ونتبادل أخبار العائلة ساعة..وأستمع إلى تفصيلات غرامها بآنستها، ومحاولتها قيام الليل بسورة البقرة.
ولو كنت مثلها يومئذ أتكلم بعفوية، لقلت أني كنت أحلم بامتطاء فرس أصيلة، وكتابة القصص الجميلة المسلية..بل كنت أتمنى أن ألبس كل الثياب التي أراها في مجلات الخياطة- وكنت تختارين أحشمها وأعقلها لتخيطي لنا- كنت ألبس كل ثوب على حدة قبل نومي، وأتزين بالمجوهرات المناسبة.. وحدي.. لا أسمع استحسان أحد، ولا ثناء أحد.. كان ذلك يكفيني، أن أكون آنقَ البنات وأرشقهن وأكيسهن، في أحلام لا تنام.
فإذا طلع النهار..وبدأت طقوس الحياة المألوفة المعروفة المفروضة علينا، صرت أشد الفتيات عناداً وغلظة بشأن لباسي.. أريد أن ألبس ما لم يفصَّل لأحد بعد، أريد أن أبدو على هيئة لم يخلقني الله عليها، ومن هنا جنحت إلى ملابس الحياد، تمسكت بالزيّ المدرسي معظم الأوقات خارج المدرسة، وجدت فيه الأمن والبقاء خارج المنافسة.
سامحيني يا أمي!
حرمتك بهجة البنت الكبرى زمناً.. لم أسمح لك بالتباهي بي، ولم أساندك بالقدر الذي أتمناه الآن.. طال أوان طفولتي خوفاً من أنوثتي..... وكبرت كثيراً في مساحات أخر.
كم مرة صفقت باب البيت مسرعة إلى ( الدرس) وصوتك ورائي: ماذا لو اعتذرت اليوم.. قولي لها كنت أساعد أمي.
معقول؟ كيف أجرؤ على عذر كهذا..
كم مرة تأفّفتُ من أعمال المنزل: فعليَّ قدر من القرآن لابدَّ من حفظه..كانت الخادمة المقيمة ترفاً لا تجده إلا في الأحياء المترفة التي نمر عليها للفرجة..
كان البرّ عند القبيسيات برَّ الآنسة، والطاعة للآنسة، والتهذيب والأدب الجمَّ مع الآنسة..
كيف تضيع الاتجاهات هكذا؟هل سلّمناهن جميعاً زمام تفكيرنا وعواطفنا ومشاريعنا وأحلامنا.. ألم نغدُ كما أردنَ: كالميت بين يدي غاسله.
كيف حدث هذا ويحدث.. ماسرّ هذه الطفلة الراكضة نحو صباها، حين تسلم أفكارها لمن تكبرها سناً وتجربة.. تخاطبها باسم الدين، فتنقاد بسهولة وسرور.. ألأنه خطاب الفطرة؟ فكيف ُألقيَ فوقه كلُّ هذا الزخرف والقشور البراقة التي تعشي العينين عن الحق والحقيقة؟
ولم تكوني شديدة الغضب مني، إنما هي الشكوى، والصبر على البنت الكبرى التي اعتادت بيوت الشام أن تجعل منها سيدة صغيرة ولو قبل الأوان..
ولأنك كنت مثلي يا أمي تخشين أن يكون أي اعتراض وأي انتقاد يعني اعتراضاً وتمرداً على الدين.. لم نستطع أنا وأنت أن نفهم المعضلة ونفكر في حلّ.
هل جعلنني أكره نفسي خارج دوائرهن.. فأنا بينهن لن أكون أنا، سأكون إلكتروناً يدور في فلك النواة، دون خيار، دون مسؤولية، ودون تفكير.. إلا في أن أدور باستمرار وعلى الصورة التي تكفل دوران هذه الكتلة الهائلة من الطاقة دون توقف ولا أي قدر من الفوضى..
لست أزعم أن كل بنت يصيبها ما أصابني، غير أني أنصح بالعناية الشديدة بأولئك البنات الطيبات البريئات ذوات الحساسية والمثالية وحب الكمال- ما كان أكثرهن في ذلك الزمان الذي لم يعرف الفضائيات ولا الإنترنت - إذ سيكنَّ فريسة سهلة لعبارات الثناء والمديح وشهادات الإكبار المبالغ فيها، يصبح هذا أشبه بالأوكسجين الذي لا بد منه للتنفس، أما في مجتمع آخر لا يعرفنا أو لا يعترف بنا؛ فنحن مطالَبات بإثبات ذواتنا بأساليبَ أخرى ومهاراتٍ أخرى لا نتقنها..
وكانت معظم الأمهات يشكون من غيابنا، من إهمالنا مظهرنا*، من تجنّبنا الاجتماعات التي لا يكثر فيها عددنا، يشكون من أن كلام الآنسة وأوامر الآنسة وما تحبه الآنسة هو المقياس والفيصل في توجيه سلوكنا..
**
**
ومهما اتهمت به نفسي من نفور من عمل البيت عموماً، إلا أني بعد الانسحاب من بينهن صرت أفضل حالاً بما لا يقاس، وأعلنت فرحك بي ودهشتك من تحولي، كما أعلنت رضاك عني..ِ
**
رضاك يظللني الساعة، يمسح عن عينيَّ التعب، ويرفع عن صدريَ كلَّ هم.. فماذا أريد بعد؟