الثلاثاء، ٤ جمادى الآخرة ١٤٣١ هـ

( 15) سامحيني يا أمي



سامحيني يا أمي!

 ففي تلك الفترة التي أتحدث عنها كان مفهوم البرّ غائماً غائباً في طيّات مزاعمَ يصعب على طفلة أن تدرك أنها يسيّرها الهوى: هوى أن تكوني مع رفيقات الدرس وأخبارهن وضحكاتهن، هوى أن أكون مع ابنة الخالة نراجع القرآن ساعة..ونتبادل أخبار العائلة ساعة..وأستمع إلى تفصيلات غرامها بآنستها، ومحاولتها قيام الليل بسورة البقرة.
ولو كنت مثلها يومئذ أتكلم بعفوية، لقلت أني كنت أحلم بامتطاء فرس أصيلة، وكتابة القصص الجميلة المسلية..بل كنت أتمنى أن ألبس كل الثياب التي أراها في مجلات الخياطة- وكنت تختارين أحشمها وأعقلها لتخيطي لنا- كنت ألبس كل ثوب على حدة قبل نومي، وأتزين بالمجوهرات المناسبة.. وحدي.. لا أسمع استحسان أحد، ولا ثناء أحد.. كان ذلك يكفيني، أن أكون آنقَ البنات وأرشقهن وأكيسهن، في أحلام لا تنام.
فإذا طلع النهار..وبدأت طقوس الحياة المألوفة المعروفة المفروضة علينا، صرت أشد الفتيات عناداً وغلظة بشأن لباسي.. أريد أن ألبس ما لم يفصَّل لأحد بعد، أريد أن أبدو على هيئة لم يخلقني الله عليها، ومن هنا جنحت إلى ملابس الحياد، تمسكت بالزيّ المدرسي معظم الأوقات خارج المدرسة، وجدت فيه الأمن والبقاء خارج المنافسة.
سامحيني يا أمي!
 حرمتك بهجة البنت الكبرى زمناً.. لم أسمح لك بالتباهي بي، ولم أساندك بالقدر الذي أتمناه الآن.. طال أوان طفولتي خوفاً من أنوثتي..... وكبرت كثيراً في مساحات أخر.
كم مرة صفقت باب البيت مسرعة إلى ( الدرس) وصوتك ورائي: ماذا لو اعتذرت اليوم.. قولي لها كنت أساعد أمي.
معقول؟ كيف أجرؤ على عذر كهذا..
كم مرة تأفّفتُ من أعمال المنزل: فعليَّ قدر من القرآن لابدَّ من حفظه..كانت الخادمة المقيمة ترفاً لا تجده إلا في الأحياء المترفة التي نمر عليها للفرجة..
كان البرّ عند القبيسيات برَّ الآنسة، والطاعة للآنسة، والتهذيب والأدب الجمَّ مع الآنسة..
كيف تضيع الاتجاهات هكذا؟هل سلّمناهن جميعاً زمام تفكيرنا وعواطفنا ومشاريعنا وأحلامنا.. ألم نغدُ كما أردنَ: كالميت بين يدي غاسله.
 كيف حدث هذا ويحدث.. ماسرّ هذه الطفلة الراكضة نحو صباها، حين تسلم أفكارها لمن تكبرها سناً وتجربة.. تخاطبها باسم الدين، فتنقاد بسهولة وسرور.. ألأنه خطاب الفطرة؟ فكيف ُألقيَ فوقه كلُّ هذا الزخرف والقشور البراقة التي تعشي العينين عن الحق والحقيقة؟
ولم تكوني شديدة الغضب مني، إنما هي الشكوى، والصبر على البنت الكبرى التي اعتادت بيوت الشام أن تجعل منها سيدة صغيرة ولو قبل الأوان..
ولأنك كنت مثلي يا أمي تخشين أن يكون أي اعتراض وأي انتقاد يعني اعتراضاً وتمرداً على الدين.. لم نستطع أنا وأنت أن نفهم المعضلة ونفكر في حلّ.
هل جعلنني أكره نفسي خارج دوائرهن.. فأنا بينهن لن أكون أنا، سأكون إلكتروناً يدور في فلك النواة، دون خيار، دون مسؤولية، ودون تفكير.. إلا في أن أدور باستمرار وعلى الصورة التي تكفل دوران هذه الكتلة الهائلة من الطاقة دون توقف ولا أي قدر من الفوضى..
لست أزعم أن كل بنت يصيبها ما أصابني، غير أني أنصح بالعناية الشديدة بأولئك البنات الطيبات البريئات ذوات الحساسية والمثالية وحب الكمال- ما كان أكثرهن في ذلك الزمان الذي لم يعرف الفضائيات ولا الإنترنت -  إذ سيكنَّ فريسة سهلة لعبارات الثناء والمديح وشهادات الإكبار المبالغ فيها، يصبح هذا أشبه بالأوكسجين الذي لا بد منه للتنفس، أما في مجتمع آخر لا يعرفنا أو لا يعترف بنا؛ فنحن مطالَبات بإثبات ذواتنا بأساليبَ أخرى ومهاراتٍ أخرى لا نتقنها..
وكانت معظم الأمهات يشكون من غيابنا، من إهمالنا مظهرنا*، من تجنّبنا الاجتماعات التي لا يكثر فيها عددنا، يشكون من أن كلام الآنسة وأوامر الآنسة وما تحبه الآنسة هو المقياس والفيصل في توجيه سلوكنا..
**
ومهما اتهمت به نفسي من نفور من عمل البيت عموماً، إلا أني بعد الانسحاب من بينهن صرت أفضل حالاً بما لا يقاس، وأعلنت فرحك بي ودهشتك من تحولي، كما أعلنت رضاك عني..ِ
**
 رضاك يظللني الساعة، يمسح عن عينيَّ التعب، ويرفع عن صدريَ كلَّ هم.. فماذا أريد بعد؟



* . أما شكاوى الأزواج، فقد تأتي 

الأربعاء، ٢٨ جمادى الأولى ١٤٣١ هـ

( 14) زيارة لم تؤدّ الغرض منها


نَفِدَت الأناشيد، وانتهت الأغنيات، وتكرّر التهليل والصلاة على
النبي( صلى الله عليه وسلم) وجربت الغناء من لم يسبق لها الغناء، بإلحاح من الرفيقات، وتجاوزت البنات نشوة الانتظار العذب، ولم تحضر الآنسة..
لقد مرت ساعة ونصف الساعة على موعد الدرس، زاد التلفّت بعد إطراق، والهمس بعد إنصات.. لقد تأخّرت الآنسة كثيرا..
ثم ظهرت صبيّة على باب الغرفة التي نفترش أرضها كلها، وأشارت إليّ وإلى فتاة في سنّي، عرفت بجمال الوجه والصوت الشجيّ، والتهذيب والتفوق في المدرسة، إلى جانب حرصها على حفظ سور القرآن الكريم.
خرجنا مبهورتَي الأنفاس، لمحنا الآنسة تقف أمام باب الدار ذات الطراز العربي، وتهمس لمن حولها.. أشير لنا بالاقتراب منها، لنخرج معاً..وكانت بانتظارنا سيارة، يدهشني أني لا أذكر هل كان يقودها رجل أم امرأة.. ركبنا مع الآنسة في تعجب وارتباك، دون أن يراودنا أدنى شك في أن لنا في هذه الرحلة من التميّز والاختيار فوق ما تتحمل أعصابنا الغضة، لقد تركت الآنسة بنات الدرس جميعا، ألغت درسها.. لترافقنا إلى مكان ما..
لم نتبادل كلمة، ولم تذكر الآنسة وُجهتنا، وكأنا- وهذا ما أحسّه اليوم- عنصران صالحان للتجنيد، وقد بدأت الإجراءات التي نعرف تلقائياً أنه لا يجوز السؤال عنها.
وصلنا إلى ساحة عرنوس، وقد عرفت ذلك فيما بعد، اتجهنا إلى بناء ما، لن أتعرفه اليوم، نزلنا قبواً تحت الأرض، فاجأتني خزانة أحذية كالتي توجد على أبواب المساجد، وكانت ملأى بتلك الأحذية الجادة الحزينة التي تفضلها القبيسيات، والتي لم أستطع انتعال غيرها بعد تركهن، أول ما لاحظته أن المكان بلا جدران، واسع تتناثر فيه الأعمدة التي فرش ما حولها بالسجاد، تركت معظم مساحة البيت متصلة، بدت مريحة للنظر والنفس( مبدئياً) وبخاصة أن المكان نظيف جداً، وهي خصيصة قبيسية عرفت بها كل المرافق التي تديرها القبيسيات.
على يمين الداخل، متأخراً عن سَمْت الباب، كان ثمّة بضعة حمامات، تذكّر بالمدارس.
كان المكان يعجّ بالبنات بلباسهن المعروف، واقفاتٍ وجالسات، يتهامسن ويتحادثن ويتنادَين، حتى برزت الآنسة منيرة من الجهة اليمنى لباب الدخول، وكنت رأيتها مرتين قبل ذلك، الأولى في جامع الروضة كما ذكرت في أولى الحلقات، والثانية في جامع قريب من بيتنا، يوم دعتنا الجارات في حماس لنرى ونسمع الآنسة منيرة، فذهبت، وراقبت بدهشة كيف تصل إلى مكانها بصعوبة على نشيد طلع البدر علينا، وكيف أن قدميها لا تكادان تمسّان الأرض من كثرة من حولها من النساء، وكيف تتصاعد لهفة النساء لرؤيتها وإلقاء التحية عليها، وتقبيل يدها..مشهد يذكرك بما تراه اليوم من تصرفات الشباب حين يرَون واحداً من المشاهير في الفن أو الرياضة.
بدت لي طويلة ضخمة نسبيا، في ثوب فضفاض سابغ، سمراء في عرفنا في تلك الأيام، تسابقت الفتيات نحوها، ينحنِين على يدها ليقبلْنَها، متصاغراتِ الحجم والهيئة، وهي تمسح رؤوسهن، تسأل وتؤنّب وتعلّق.
قربتني منها آنستي.. كان لابد أن أقبل يدها كالأخريات، رغم نفوري من هذا، لم يكن والداي حريصين على هذه العادة التي لا تزال شائعة حتى اليوم، لكنا كنا- معاشر الصغار- مضطرين لتقبيل عدد وافر من أيدي الأقارب رجالاً ونساء، هذا ما يقتضيه الأدب والتهذيب و( سماع كلام الكبار) وكم صدمَتْ أنفيَ كفٌّ تسارع إلى مساعدتي وأنا أرفعها إلى جبهتي..
أكاد لا أصدق أن هذا كان يحدث*..
وقبل أن أنحني، فوجئت بها- وكأنها أحسّت بتردّدي بفِراسة مخيفة- ترفع كفّي إلى فمها لتطبع قبلة لطيفة على باطنها وتحدق فيَّ بعينين واسعتين نفّاذتين، قائلة: نحن نقبل أياديكم آل فلان، وذكرت جدي لأمي.. الذي شهد له معاصروه وتلامذته حتى اليوم بالعلم والعمل، وكان أبي ممن طلب العلم الشرعي عنده في طفولته وفتوته، لكنه أكد مراراً أن جدي لم يخالف سنة يوماً، ولم يسلك أي سلوك مما يؤخذ على أهل الطرق الصوفية، رغم أنه كان محسوباً على الطريقة النقشبندية!!
كنا معاشر بنات الخالات والأخوال جميعاً، نقابَل من الجماعة بهذا الإكبار حتى لقد قالت إحدى الآنسات لإحدانا( زبالتكم آل فلان، بأكابرنا!!) فكل من ينتمي إلى عائلة جدي، لا بد أن يكون من الأكابر في التدين..وحسبنا الله ونعم الوكيل.
يحضرني الآن سؤال إبراهيم عليه السلام لربّ العزة، إذ قال تعالى" إني جاعلك للناس إماماً، قال: ومن ذريتي؟ قال: لا ينال عهدي الظالمين" البقرة/ 124
***
كان من المفترض دون شك أن أعتبر هذه الزيارة مكافأة وتمييزاً لي عن باقي الرفيقات، أن أفرح وأغتبط بهذا الاختيار..لكني بقيت طويلاً أشعر بالضيق من الموقف الذي وجدت نفسي فيه: كيف تقبل كفي سيدة تبدو أكبر من أمي؟ لم تُحرجني إلى هذا الحد؟
***
يمكنني اليوم أن أقول أن المديح المبالغ فيه والتدليل والتفضيل، كان يسير في خط موازٍ للتوبيخ والتأنيب المبالغ فيهما أيضاً..وذلك بحسب الحالة والحاجة.. وقد نالت الجميلات النصيب الأوفر من المديح والتقريب، وبخاصة حين يكنّ من عائلات ذات نفوذ أو غنى، كان التمسك بهنّ حينها أشد.
أما أنا فقد كنت حفيدة الشيخ فلان، وبنت الأستاذ الجامعي فلان، الذي سيدرّس كل طالبة تقصد كلية الشريعة..وكان إقبالهن عليها كبيرا، كما كنَّ مجتهداتٍ متفوقات.
كان وجودي بينهن واستمراري أشبهَ بصكّ قبول وتأييد من الأستاذ المتميز المشهور، الذي لا يخفى أنه فكرياً على الأقل أقرب إلى خط( الإخوان المسلمون)، وبين الصوفية والإخوان خلافات تصل إلى العقيدة.. لكنها لم تمنع التزاوج والتمازج والتزاور ولو بحذر وحرص ومداراة.
كان تيار الحياة والمصالح وأواصر القربى أقوى.. وكانت القبيسيات هن الفائزات في معظم الأحيان..لأنهن تيار نسائي يدير البيوت كما يديرالرؤوس والقلوب. وللحديث صلة
___________
* لن أفوّت هذه الفرصة لأذكر أن الشيخ"علي الطنطاوي" رحمه الله، كان يقول لبناته( سمعت منهن حين قيّّض الله لي معرفتهن): من قبّلت منكنَّ يد أحد؛ أضربُها..كانت فكرة مذهلة، تجرّعت ما أشعرتني به من مرارة؛ برضا وسرور.