الأحد، ٣٠ شعبان ١٤٢٩ هـ

( 5) محاولة للحديث في المضمون

يكاد حفظ القرآن كاملاً يكون أهمَّ هدف تسعى إليه البنت في الدرس، إنه قمة العمل الصالح، سعادةُ البنت وفخرها وفخر آنستها وأهليها، ومذ بدأت حضور الدروس وضعتُ نصب عينيّ ذلك الهدف، وإن كنت متخوّفة أنه هدفٌ أكبر من طاقتي
كنت أحفظ في البيت وحدي، تارة أحدد لنفسي قدْراً من الآيات ولا ألتزم بها، تارة أندفع بهمة أكبرَ، ثم أتباطأ وأتكاسل، وبين الحين والآخر كنت أجد من تسمع مني قبل حضور الآنسة، ولعله كان يُخصّصُ وقتٌ لذلك أحياناً
كنا نحفظ دون تفكير، لا أدري كيف تضبط قراءة الرفيقات قبل الحفظ، كنت أحصل على الرضا لأني أحفظ بصورة صحيحة، خاليةٍ بالطبع من أحكام التجويد، إلا ما تعلمته في الابتدائية، أو التقطته في البيت..
كانت ساعاتٍ مميزة، تلك التي أمسك فيها بالمصحف الصغير، ثم أدور في فِناء المنزل، أو أنتقل من غرفة إلى أخرى، أو أمكث قليلاً في غرفة خالية
لم يكن ثمةَ موعد نهائيّ للحفظ في تلك الأيام، سمعت أن بيننا حافظةٌ أو اثنتين لكنهما أكبرُ مني، ومن المشاهد التي أذكرها بوضوح، مشهدُ صبيةٍ دافئة النظرة تجلس تجاهي، تسند رأسها إلى كفها، وتهزّه رضاً وإعجاباً وهي تسمع مني ما حفظت.. وكم كان سروري بإعجابها بقراءتي الصحيحة، وأحكام النون الساكنة والتنوين التي أتقنتها( لعلي) لكن لم أتعلم غيرها بعدُ..هذه الصبية ستنقل للآنسة رأيَها في حفظي أو تبلغُها بمقدار ما حفظت
في أواخر أيامي تلك، انتابني حماس كبير مرة فنمت في بيت ابنة خالتي، لننهض معاً للحفظ بعد صلاة الفجر..خرجنا إلى الشرفة العريضة نذرعها جيئة وذهاباً، نحفظ ونراجع، على حال من البهجة الصافية البريئة
ومن النظرات وبعض الكلمات الشائعة التي تخفق لها قلوب الصغيرات( يا حبيبة قلبي، ما شاء الله حولها..الله يرضى عليك..مثلاً) كنت أعرف أني سائرة على السكة المطلوبة
وكان محبَّذاً أن نقرأ ما حفظنا في الصلاة، كنت أحاول، لكن هذا يطيل الصلاة وأنا فتاة مشغولة الذهن دائماً بمشاريعَ تتوالدُ باستمرار، أهمُّها العودة إلى قصة أقرؤها، أو واجبٍ مدرسيّ لا يخلو من تحدٍّ
وماذا غير حفظ القرآن؟
أذكر أنا مرة فسرنا شيئاً من سورة النور.. تحمّست وصرت أقرأ في أحد التفاسير قبل ذهابي، لكن التفسير لم يستمر، لم ننهِ السورة، ولا شك أن الغاية منها كانت آياتِ الحجاب
هل كُلفنا بقراءة كتب أو موضوعات معينة؟
أبداً( حدث ذلك في فترات لاحقة بعد انسحابي، لكني لم ألمس له تغييراً
في أساليب التفكير والتعامل) مرة واحدة وزع علينا أو اشترينا كتيباً صغيراً في الفقه الشافعي( متن الغاية والتقريب) لأبي شجاع، شرحت الآنسة قدراً من باب الطهارة، ولا زلت أذكر حتى اليوم كيف استفاضت في شرح الخارج من السبيلين، وأتت على احتمالات لم تكن تخطر لي على بال.. وكم كتمنا ضحكاتِنا المتظاهرةَ بالاستهجان.. ثم امتحنتنا فيما درسناه من مسائل الطهارة..
فعمَّ إذن كان يدور الدرس؟
الحق أني مذ بدأت هذه الحلقات شغلني هذا السؤال، وهو سؤال صعب.. فحين تقضين ساعتين إلى ثلاث ساعات في الأسبوع في درس، ليس فيه إلا الوعظ والتأنيب والتخويف أو التغزل بصفات محمد صلى الله عليه وسلم وسيلة للتحبيب به، وحكايات الصالحين، دون مناقشة أفكار أو مفاهيم محددة، تصبح القصص هي الفكرة والدليل والشاهد معا.
حتى من السيرة الشريفة، كنا نتعرض فقط لما يتعلق بحب الصحابة لنبيهم، كموقف أبي بكر رضي الله عنه يوم الهجرة، وكانت الآنسة تتفنّن في رسم الصورة الذهنية بكلماتها وتنجح في هذا..ولم يكن يطلب إلينا العودةُ إلى كتب السيرة، ولا غيرها من قصص الصحابة والشهداء مثلا.. ولا أذكر أنه مر أمامي يوماً ذكرُ خالد بن الوليد، أو موقف قوةٍ لعمر رضي الله عنهما..أو حتى عن برّ الوالدين، لعل الأمور اختلفت قليلاً اليوم، لكن ( أنت تحصل على ما تراه) كما يقولون بالإنجليزية، خط الجماعة( وإن كنت أفضّل مصطلح التنظيم) لا زال كما هو، وإلا فأين التغيير الحقيقي في المجتمع؟
إن الأمهات هن عماد التأثير والتغيير في الأمم، ولقد كانت القبيسيات ولا زلن هن المرشحات أكثر من أي شريحة في المجتمع السوري المحافظ للاقتران بالشاب المتدين، حتى
إن الشاب من أي جماعة حتى ( الإخوان المسلمون) لم يكن يجد إلا القبيسية زوجة تصلح له، إذا قارنها بالسافرة أو المحافظة دون التزام، حتى كثر ذلك بصورة لافتة، وصار موضوع تندُّر، ولا زال مستمراً إلى يومنا هذا، ذلك أن تغطية الرأس والجسم هي مقياس التدين الوحيد تقريباً في مجتمعاتنا حتى اليوم، وإن من المشهور المعروف أن القبيسية نادراً ما تتحول عن طريقها، وقد تؤثِر جماعتَها على زوجها وبيتها، الذي يتحول تلقائياً إلى بيت للتنظيم، تُعقد فيه الدروس والموالد ومجالس الذكر الجماعي المسماة( حضرات)، ومن هنا كانت أمام القبيسيات فرصة كبيرة لإنشاء أجيال مسلمة أبية قوية تسعى إلى النهوض بالمجتمع نحو الحرية والعدالة والاستقامة والعزة الإيمانية.. أما ما نراه حتى اليوم فهو نوع من التكيف، أو التصالح مع ما تمليه الدولة بما يضمن لهن الاستمرار في نشاطهن( آخر ما سمعته أن الأناشيد الدينية/ على ما فيها/ منعت في صالات الأفراح التي تملكها القبيسيات في دمشق ويشرفن عليها، فرضين بالأغاني الشائعة التي يفترض ألا يسمعها المسلم حتى لو كان يبيح لنفسه شيئاً من السماع المنضبط) بل إني لأجتهد بأنهن كنّ خير عون بقصد أو بغير قصد، للحكم الذي يستمد مرجعيته العقدية والأخلاقية!! والسلوكية من حزب البعث( العربي الاشتراكي!) .. الغني عن التعريف، والذي يحكم سورية منذ سنة 1963
***
أصغي، أصغي، أصغي..لا تسألي ولا تتساءلي فليس هذا من شيم من تريد الارتقاء، أحبي الآنسة، ابكي صلّي، صومي، ومن الليل قومي، أقنعي بنتاً بالحضور معك.. البسي المطلوب، احضري الموالد واحتفالات ختم القرآن وحجاب فلانة وعرس أخرى، وولادة ثالثة( فهناك تجدين الآنسة)..اذهبي إلى المدرسة الفلانية لتساعدي في تنظيفها، اذهبي إلى بيت الآنسة فلانة لتساعديها في بيتها وأطفالها لأن عليها مَهمّات جِساماً..
هل هذا هو كل الإسلام؟ وماذا بعد؟ أسئلة لن تَجِدي من يطرحُها علانية هنا...

الثلاثاء، ٢٥ شعبان ١٤٢٩ هـ

( 4) بدايات

لم أعد طفلة، أنا الآن في بداية المرحلة الإعدادية، لعلّي أكاد أُنهي الصف الأول، وأمور كثيرة تغيرت:
بين مدرّسينا رجال: مدرس للديانة , وآخرُ للرياضيات، كنا متوتّرات كثيراً أولَ الأمر، ولم نستطع كتمانَ اهتمامِنا وانشغالنا بهما
ومن أشقِّ ما جدَّ علينا أنّا بدأنا- نحنُ المحجباتِ- نشعر أنا غيرُمرغوبٍ فينا، وأن حجابَنا مصدرُ ضيق وحنَق لكثيرين وكثيرات، ونحن في حيّ الميدان المشهور بأنه حيّ محافظ
درس الرياضة بالذات غدا مشكلة كبيرة، نقف للعب في الساحة التي يعبُرُها أذَنَةٌ ومعلّمون ومُراجعون، المعلمة متضايقة من تغطيتنا رؤوسَنا، ومن التنورة فوق البنطال، والأعجبُ والأكثر قَهراً:كيف تقرِّب منها الحسناواتِ وتُعفيهن أحياناً من الاختبار
وكنت أخرج بالزيِّ المدرسيّ الأزرق ذي القطعتين، فوق قميصٍ أبيضَ..أحببت هذا الزيَّ مذ كنت في الابتدائية، وانتظرت ارتداءه بلهفة، لبسته مع جَوربين أبيضين أو كحليَّين طويلين ينتميان إلى أزياء الطفولة، أو بنطال كحلي يعطيني المزيدَ من الحرية في الحركة، وبخاصة أني كنت أستقلُّ الباص غالباً إلى المدرسة
أما في الدرس فمعظمُ البنات، يرتدين معاطفَ طويلةً عريضة، بألوان مختلفة، تتجاوز الركبيتين قليلاً أو كثيراً، غير أنها حتماً لا تغطّي الساق كلها، وجواربَ سميكة( جدا) ولا ينتعلن إلا أحذيةً بسيطة
كذلك كانت آنستي..لكنها لا تلبسُ إلا اللون الكحليّ
ومصطلحُ الآنسة في سورية يُطلَق على كل معلمة، في المدرسة وخارجَ المدرسة، مهما يكنْ عمرُها، أو عدد أولادها.. لكن آنساتِ الدرس الديني كنَّ غالباً غيرَ متزوجات.. تبتَّلن للدعوة اقتداءً بالآنسة المؤسسة منيرة قبيسي، وبخاصة هذا الرعيلُ الأول الذي اختارته وشكّلته في بداية انطلاقتها
كانت آنستي منهن، وإن كانت يومَ عرفتُها شابةً صغيرة لم تتخرج بعدُ من كلية الشريعة، لكنها لم تتزوج أبداً
***

كنت متحمسة جداً للذهاب، بين أولئك البناتِ الطيبات لن أفكرَ في شكلي، شعري سيظلُّ مغطّى، لا أحد سيهتمّ بتناسق ملابسي وجِدَّتِها.. همّ الجميع واحد: أن يتعلَّمن حبَّ اللهِ ورسوله وطاعتَهما
أخذت معي دفتراً وقلماً.. دون أن يطلبَ إليّ أحد..وكنت أُعتبر في تلك الأيام بنتاً مجتهدة مطيعة حريصةً على التعلم
وكنت أعرف قواعد الدرس، لم يذكرها أحدٌ صراحة، ولم تُملَ عليّ.. لكنها تسري في الأجواء دون كلام، وتشكّل وعي( أولا وعي) كلِّ بنتٍ تنضمُّ إلى الجماعة، من ذلك مثلاً
أنك يجب أن تَصِلي قبل الآنسة، ستشعرين بالحرج الشديد لو وصلت بعدها
لا أحدَ يجلسُ إلا على الأرض، ثمةَ أريكةٌ أخرى، لكنْ كما تلاحظين كلُّهن على الأرض، أحياناً تحضُر بنت جديدةٌ غيرُ محجبة فنجلسُها عليها
الآنسة يحق لها أن تتأخر، ساعةً أو تزيد.. لا أحدَ يسألُ لا أحد يُبدي استغراباً
وإلى أن تحضرَ الآنسة ثمةَ ما نُمضي به الوقت.. يمكنُ أن نسمّعَ القرآن.. لكن يغلبُ أن ننشدَ ونذكر الله معاً! وفي الذكر صلاةٌ على النبي مغنّاة معروفة.. لا يخلو منها مجلسُ ذكر حتى في الإذاعة عندما تُنقل صلاةُ الجمعة أو فترة السحور.. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله عدد كمال الله وكما يليق بكماله، ثم نعيد الصلاة لكن على أسعدنا، ثم سندنا، ثم نور الهدى.. بحيث يرتفع الصوت بنغمة معينة لدى تبديل المفردات تلك، مانحاً شعوراً بهيجاً مريحاً لا يمكن تفسيره لدى بنت في الثالثة عشرة
ثَمّةَ الكثيرُ من الأناشيد بالفصحى، ثمة أغانٍ بالعامية، اكتشفتُ بعد عقد من السنوات أنها تشبه أو تطابق أغانيَ لصباح فخري، المغني الحلبيّ المعروف، ذي الحَنجَرة الجبارة
في أحيان قليلة يُطلب إلى بنت صوتُها شِبه جميل( فبعدَ صوت الآنسة نجد أنه لا صوتَ جميل، وكان هذا حقيقياً في حالة آنستي) أن تنشد، فنستمع ونثني خيراً
تحضر الآنسة.. تنهض البنات بحماس والسرور يملأ وجوهَهن، تنكبُّ بعضهن على يدها فتقبلُها، يُفسحن لها الطريق إلى مكانها.. ثم يجلسن، السعيدةُ من كانت الأسبق، وجلست أقربَ إلى الآنسة، بالتحديد: قربَ قدميها
لا أحدَ يسألُ أثناءَ الدرس، لا أحدَ يعترض، الكل يستمع، ويفضَّلُ أن تكوني مطرقةَ الرأس إجلالاً وحياءً من الله..

قد تلقي الآنسة بعضَ الأسئلة ربما لتجدّدَ انتباهَنا، لكنها تجيبُ عنها بنفسها، بعد أن تسمعَ كلمةً أو نصف كلمة من الإجابة

***
لأمر ما لم أحرص على التقرُّب من الآنسة..فبدأت أتّهم نفسي بالكِبْر، وأفكر بعبارة أمي: ستّ نفوس!! التي ترميها في وجهي عندما أدافعُ عن نفسي، أو يبدُر مني ما يشير إلى ردّ مهانة أو اعتدادٍ بالنفس


هل ستبدأ معاناةٌ غامضةٌ محرجة تشقّ طريقَها إلى كيان الفتاة المهذّبة الخجول؟

الاثنين، ١٠ شعبان ١٤٢٩ هـ

السلام عليكم

خلال سفر غير طويل، سأعدّ- بإذن الله- الحلقة التالية..
رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً

اللهم ألهمنا رشدنا وجنّبنا الزلل
ربنا إليك أنبنا وعليك توكلنا

الجمعة، ٧ شعبان ١٤٢٩ هـ

( 3) وليَ آنستي

عامان أو أكثر مرّا على ذلك الدرس في جامع الروضة، غادرت الأسرة خلالهما قطنا إلى دمشق، لظروف عمل والدي
لعلي شعرت ببعض الوحشة والغربة.. ورغم أن البيت الجديد في دمشق كان واسعاً جداً، إلا أن حديقة قطنا العامرة بالجمال والنقاء تحولت إلى بلاط جافٍ يحيط بالبيت.. تقلصت مساحة السماء واختفت الخضرة أو كادت، واختفت بنات الجيران وصديقات المدرسة..
صارت فرحتي أكبر حين تزورنا بنات الأخوال والخالات، وقد أصبحت الآن مثلهن من سكان دمشق، وبلغ الفرح مداه حين زارتنا ثلاث منهن يوماً واستأذنّ أمي في أن أرافقهن إلى( الدرس)، كان ذلك يعني الخروج من البيت ورؤية ناس مختلفين.
ولعل مما زاد في بهجتي أن إحدى القريبات كانت صديقة عزيزة جداً تقاربني سناً، وكنت أعتبر حضورها إلى بيتنا عيداً، لخفة ظلها وجرأتها.
كنا في حي الميدان، بينما قدمت قريباتي من أحياء أخرى، ولم يكن التنقل بالباصات الكبيرة المضطربة المواعيد بالأمر السهل على ثلاث فتيات مهذبات سابغات الستر.
لم يكن البيت الذي قُدنَني إليه بعيداً بالنسبة لما تعارف عليه الناس يومها، لكنا انتقلنا من القسم الجديد في حي الميدان إلى القسم القديم، ذي البيوت عربية الطراز التي تقودك إليها حارات ضيقة، تتباعد فيها الأبواب الصامتة المزروعة في جدران عالية جداً
وكالعادة ينفتح البيت الدمشقي على دهليز معتم قليلاً. يقودك إلى فناء فسيح محاط بأشجار الكباد والليمون والنارنج.. وأنواع الزهور.. ربما لم تعد ثمة حاجة للوصف، من أراد وصفاً أدبياً تزينه شجون الحب والحنين فليقرأ ذكريات الشيخ الأديب علي الطنطاوي، ومن أراد الصورة فقط فلا شك أنه رآها في المسلسلات السورية، التي تجد في العودة إلى الحارة مهرباً ذكياً من مناكفة دهاليز الحاضر
كان الجو دافئاً.. فكان الدرس في الليوان، وهو تلك البقعة المسقوفة من الفِناء الذي نسميه أرض الديار
جلست الآنسة في صدر الليوان على أريكة.. بينما جلست البنات والسيدات على الأرض، من حيث استقرت قدماها إلى نهاية المجلس، مطرقات الرؤوس، يصعب تبين وجوههن
أذكر من ذلك البيت، من ذلك المشهد الجديد .. سيدة براقة الوجه، رغم بعض التجاعيد، تجلس على كرسي، كانت أحياناً تقاطع الآنسة( لا يفعل هذا غيرها) وتسهم ببعض الأمثلة والقصص التي كانت هي طرفاً فيها، ولعلها كانت تلقي علينا معاشر الصغيرات بعض التوجيهات الاجتماعية. وكانت الآنسة تستمع بأدب وابتسامة لطيفة، وقد علمت فيما بعد أن تلك المتحدثة من أقارب أهل الدار. كما تعرفت يومها بابنة الدار التي رحبت بنا كثيرا، وكانت تغطي رأسها هي الأخرى، في بيتها، مثل سائر التلميذات
أستطيع أن أزعم أني سررت جداً: بلقاء بضع بنات من سني، بالأناشيد العذبة التي تبدؤها الآنسة بصوت رخيم صاف..ثم تشاركها التلميذات.. كان الدرس يخاطبني، يأخذ بيدي إلى طريق سعادتي التي لا تكون إلا برضا الله عني.. هكذا يجب أن أكون، تماماً كما تقول الآنسة.. وما تطلبه الآنسة هو عين ما تطلبه أمي: أن أحرص على صلاتي، ألا أغتاب أحداً، أن أحفظَ القرآن.. هل في الحياة أفضل أو أجمل من هذا!
لكن الجلوس على الأرض طوال هذه المدة مزعج جداً
***
بُشّرتُ فيما بعد أن قريبتي الأصغر، تلك الجريئة الوضاءة، ستكون رفيقتي في الدرس كلّ أسبوع، أي فرحة! أما الصبيتان الأخريان فكلٌّ منهما لها درسُها وآنستها

الثلاثاء، ٤ شعبان ١٤٢٩ هـ

( 2) انطباعات الطفلة الأولية

جلسنا على الأرض، كما هي العادة في المساجد، لكنه نظام ظل سارياً في كل البيوت التي تنقلتُ بينها تلميذةً أو مريدة قبيسية فيما بعد.. وكنت يومها طفلةً قادمة من دار كبيرة خارج دمشق، من قطنا، حيث تدعوك الحديقة والفِناء المحيط بالدار إلى الحركة الدائبة الدائمة
دخلت الآنسة شبه محمولة، إذ تسابقت الصبايا إلى استقبالها في أسلوب وجوّ بدا جديداً وغريباً جداً علي
لا يمكن بالطبع تذكُّرُ موضوع الدرس ذاك، وحتى فيما بعد..إذ كانت الدروس تبدأ بآية أو حديث أو قصة تنطلق منها الآنسة إلى الوعظ والتذكير والتأنيب والتوبيخ: منفّرةً من حب الدنيا مذكّرةً بالموت، يتخلل ذلك قصص كثيرة، تؤيد الفكرة التي توردها، دونما حرص على الالتزام بموضوع محدد.
من ذلك الدرس بالذات أذكر قصة رجل اشتكى إلى شيخه أنه لا يرى محمداً صلى الله عليه وسلم في منامه أبداً فنصحه الشيخ بأن يأمر امرأته بصنع أكلة كبّة شديدة الملوحة، ويكثر منها قبل النوم، دون أن يشرب الماء
ولما عمل المريد بنصيحة شيخه لم ير في منامه النبي صلى الله عليه وسلم بالطبع، بل رأى نفسه يتنقل من نهر إلى نهر، ومن بحيرة إلى بحيرة يريد أن يشرب.. سخر منه الشيخ وقال تريد أن ترى النبي بعد أكلة كبة، وبيّن له القصد من أوامره، وأن من أراد أن يرى محمداً فيجب أن يكون شديدَ الشوق إليه، أو شيئاً من هذا القبيل
أدهشتني كثرة النسوة وتفاعلهن مع الآنسة في حديثها الجذاب البارع: كانت تلقي بالنكات والقصص وتضرب الأمثلة من الواقع الحي، ولا تبخل بالتأنيب والتوبيخ والتقليل من شأننا- معاشرَ البشر اللاهين الغافلين
وخرجت من الدرس متحمسة إلى المواظبة على صلاتي والإكثار من ذكر الله تعالى
أمران اثنان فقط، جعلاني أشعر بالارتباك من حديث الآنسة: أنها استخدمت اللهجة العامية أكثر من العربية الفصحى، وأنها ترفع الكلفة بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، وكلا االأمرين مما لم أعتد عليه لدى من سمعتهم يتحدثون في شؤون الدين من حولي
كنت مدعوة للنوم في بيت قريبتي، فلما عدنا معاً بدأت ألاحظ التغير الذي طرأ عليها: حاجباها متروكان تماماً، وكانت تنظفهما وتنظمهما، شعرها معقوص إلى الخلف، ملابسها أبسط، لا تكاد تشكل من جسمها شيئاً.. جُلُّ حديثها وحديث أختها ينصب على ذكر الآنسة: قالت، فعلت، أوصت، حكت.. وقد ترددان بعض الأقوال أو الأحاديث التي تسمعانها منها باستمرار: لعن الله النامصة والمتنمّصة، من لا شيخ له فشيخه الشيطان، واستاكوا عرضاً.. وبدا لي فعلاً أن البيت يعيش حالة جديدة لم أعهدها، رغم أن أمّهما عابدة ذاكرة تقومُ الليل مذ وعَيت وجودها
استغرق الأمر بضع سنوات، قبل أن أدرك وأتعلم أن هنالك حديثاً صحيحاً وآخر موضوعاً وآخر ضعيفاً. وأن من الفقهاء من لا يرى بأساً في الاستشهاد بالحديث الضعيف( إذا قوّاه غيره) في أبواب الترغيب والترهيب، وإن كنت أجد أن في كلام الله تعالى، وفي صحيح حديث محمد صلى الله عليه وسلم سعة وكفاية لترغيب المسلم وترهيبه، والله أعلم
من أحاديث الصديقات والقريبات- ومعظمهن انخرطن في الجماعة- فهمت أن الآنسة منيرة، قبل تفرغها للدعوة، كانت مدرسة بارعة في مادة العلوم الطبيعية( الأحياء) وأنها تتفوق بخاصة في الرسم التوضيحيّ، بحيث يكون مسح السبورة بعد حصتها أمراً محزناً
ومن مصادر أخرى لا تحبّذ خطّ الآنسة، سمعت( بعد أن أصبحت تلميذة في جماعتها) أنها تتلمذت على يد الشيخ( أحمد كفتارو) الذي كان أبوه شيخاً وعالماً فاضلاً جداً، لكن الابن لم ير بأساً في أن يكون مفتي البلاد التي استولى حزب البعث على الحكم فيها سنة 1963 بانقلاب عسكري، ملغياً ما كان يسمى حياة ديموقراطية عرفتها سورية بعد رحيل المستعمر الفرنسي سنة 1946. وهو الحزب الذي لا يخفي علمانيته وفق مصطلحاتنا الحديثة، بل اشتهر عنه عداؤه للدين والمتدينين

الاثنين، ٣ شعبان ١٤٢٩ هـ

( 1) طفلة تدعى إلى درس

حين بدأت أحضر الدروس الدينية، عند آنسة قبيسية( مازلت أكنّ لها الاحترام والمودّة) لم أكن قد تجاوزت السن التي اصطلح على أنها المراهقة، وإن كانت بعض التوجهات الإسلامية الآن تود النزول بسن
المراهقة إلى ما قبل البلوغ( انظر د. الثويني من الكويت) وهي فكرة تستحق التنويه .
أعود إلى حديثي الأساس:
سأحاول نقل تجربتي مع جماعة الآنسة( منيرة قبيسي) تماماً كما عشتها، وأية إضافة ستكون أيضاً من خبرة شخصية مصدرها قريبات وصويحبات عشن معي وعشت معهن تلك الحقبة.. لن أعود إلى أي مصدر سوى تجرِبتي
لقد تحدثت بعض المواقع الإلكترونية وبعض الصحف عن جماعة( القبيسيات) بصورة محايدة أو هجومية أحياناً، كما ظهر أكثر من كتاب يتناول تجربتهن من زوايا مختلفة، لكني غير معنية البتة بالعودة إليها، لأني أودّ رصد تجرِبتي( القصيرة نسبياً) كما حصلت وكما فهمتها وشعرت بها..فحسب

(1) الدرس الأول
دعتني بل لأقل أخذتني قريبتي المحبة الحنون حقاً، والتي كانت تؤثرني منذ طفولتي الأولى بالكثير من الرعاية والاهتمام، وكنت أجدها صبية أنيقة وخياطة ماهرة، يعجبني ما تقتنيه من المجلات والروايات ويبهجني مشاركتها سماع الإذاعات وبخاصة المصرية منها
أمسكت قريبتي الصبية بيدي وساقتني من الجادة الثالثة في حي المهاجرين إلى جامع الروضة في حي الروضة الذي يعتبر حياً راقياً وعريقاً بين أحياء دمشق
أذكر أن أكثر ما لفت نظري الطفل- وكنت قد تجاوزت سن العاشرة بقليل- إضافة إلى نظافة الشوارع المحيطة بالمسجد واخضرار ساحاتها، أن عدداً كبيراً من النساء المستورات نسبياً كن يتجهن مثلنا نحو الجامع..كانت السوريات المحافظات يغطين شعورهن بالمنديل، الذي تطور وشفّ وخفّ من ملاءة تعلو غطاء أبيض يدور حول الرأس والوجه، إلى منديل أسود يلقى على الرأس ثم يعقص من الخلف، وقد يطير أو ينفكّ لأوهى سبب، ناهيك(أليست كلمة فصيحة جداً، لكني لا أجد هنا أنسب منها) ناهيك عن الأكمام التي لا تنزل عن المرفق إلا قليلاً، وعن الحليّ الذهبية في أكفّ وأذرع لا تعوزها بضاضة ولا بياض، والبياض من مفاخر الشاميات لا جدال
كما تجدر الإشارة إلى أن معاطف النسوة كانت لا تصل إلى ما تحت الركبيتين إلا بصعوبة، مع جوارب شفافة تعرف كل النساء أنها قد تزيد سوقهن عرياً. أما نساء العلماء والمشايخ فقد كن أكثر ستراً بالطبع
الدرس كان في القبو، حيث تجد، أعني تجدين، مساحة واسعة مفروشة بالسجاد النظيف، توزعت فيها الأعمدة بصورة قد تخفي عنك أحياناً وجه المتحدثة إذا لم تبكّري لتجلسي على الأرض، في مكان ملائم
***
في مرة قادمة، إن رزقني الله المتابعة، أحدثكم عما رأيت وسمعت، وعن بعض انطباعات الطفلة التي كنتها