الأحد، ١١ ذو القعدة ١٤٢٩ هـ

(8) درس في الحبّ لم أفهمه

قريبتي الجريئة ذاتُ الوجه الوضيء ببياضه وحمرته، ذات الجرأة والنكتة الحاضرة، التي تردد أناشيد الدروس وأغانيها كلَّ وقت دون أدنى حرج، لم تستمرَّ طويلاً في درسي.
بقيت فترة تحدثني عن الآنسة فلانة، التي كانت صبية مترفة تقود السيارة وتذهب إلى المسابح، وتلبس الملابس المكشوفة، بل تعتمِر أحياناً قبعة تواكب الأزياء السائدة.. ثم هداها الله على يد الآنسة منيرة، فكانت تعبر عن ذلك مزاحاً قائلة: تحولت قبعتي إلى حجاب.
الآنسة فلانة كانت جريئة جهيرة الصوت، شقراءَ بضة ناعمة، بعينين زرقاوين، وأيُّ جمال ينافس أو يضارع زرقة العينين في الشام؟
يوماً بعد يوم كان قريبتي تكرر: أحب الآنسة فلانة، ليس بيدي.. أحبها.. تغمض عينيها وكأنها تتأملها بشغف، تخرج من صدرها الغضّ البريء تنهيدة: صوتها حلو، كلها حلوة..
كنت أسخر منها أحياناً: أنت تحبين شكلها.. شيء مضحك! فتقسم أن ليس هذا هوالسبب، إنها تحبها، وتودّ الانتقال إلى درسها.
لم تكن آنستي شقراء، ولا حسناء.. لكني كنت معجبة بصوتها النديّ وحديثها اللطيف جداً إذا ما قورن بغيرها( وقد كثرت الآن لقاءاتي العابرة بآنسات أخر، في بيوت العائلة والأصدقاء والمعارف) لم يخطر لي يوماً أني أحبها أو أكرهها، ربما كنت أحبها، لكنْ حبَّ التلميذة المعجبة بمعلمتها، كنت أعتقد أنها تقدم لي عوناً عظيماً رائعاً، وتَمدُّني بالكثير من القوة أقارع بها نفسي وشيطاني..
على نحو ما وجدت كلام القريبة المحبوبة التي كم أغبطها على جرأتها ومهارتها في الحياة، رغم أنها تركت المدرسة مبكرة..وجدته معيباً، ولا معنى له: المهم هو الدرس لا الآنسة..
لم يمض وقت طويل، حتى أعلنت الفتاة المغرمة، أنها كلمت أختها، وأن أختها كلمت آنسة ما أكبر( منزلة طبعاً) وسمح لقريبتي بالانتقال إلى حلْقة الآنسة فلانة..
أفهمتني صديقتي الصغيرة هذه، ومن بعدها قريبتنا الأكبر، أن الحب عامل مهم في التلقي، ومن تحبّ الآنسة تستفد أكثر.. تنازعتني مشاعرُ من عتب ولوم، ومن فخر واعتداد: لا يمكن أن أحبّ آنستي إلى هذا الحد.. أنا راضية بها، لكن لا أحسّ نحوها بما تصفه البنات.. هذا الحب لا تستحقّه سوى الأمهات!!
كان يدهشني كيف تتحدث البنات عن الآنسات: يصفنَ حركاتِهن وسكناتهن وعباراتهن البسيطة التي قد تكون نوعاً من الشتم أو النقد أو التذكير القاسي..
كان يدهشني كيف يستغرقن في وصف تفاصيلَ دقيقةٍ تتعلق بملابس الآنسة( ألا حظت كيف بدا كفها مع كمّ القميص من تحت كم المعطف) وتحركات الآنسة( لمحتها بدون حجاب فجرت وغطت رأسها بكفيها وهي تصيح بنا: لا تنظرن إليّ.ياه..!) وكلمات الآنسة التي غالباً ما تكون تقريعاً وتوبيخاً يختلط فيه الجد بالهزل، من مثل: روحي ارمي نفسك في الزبالة أو: ناقض عليك( يعني متراجعة روحياً) ..على العكس منها: فارق عنك!
لكني كنت أقع تحت تأثير الصحبة في بعض الأحيان، فأكرر اتهامي لنفسي بأني بنت قاسية القلب، وأني لو استطعت أن أحبّ لربما كان سلوكي أفضل..
كان صراعاً هادئاً في أغلب الأوقات، لا أبوح به لأحد.. لأن الصراع الأهم كان الصراع معي: نفسي وأهوائي وعدم قدرتي على ضبط نفسي لأسير على دروب الصالحين البكّائين الصوامين القوامين الذين تمتلئ بهم قصص الدرس.
لعلي كنت أتجنب من حيث لا أدري أن تُمَسَّ( ست نفوس) إذا كنتم تذكرون وصف أمي لي، أتجنب أن أضطر لتقديم خدمة ما دون رغبة مني، وقد رأيت مرة في نهاية درس من الدروس إحدى الرفيقات تسبق الآنسة إلى حذائها، لتحضره وتضعه أمامها، لعل الآنسة( ولست متأكدة) أبدت نوعاً من الممانعة، لكني شعرت باستنكار شديد، وتمنيت أن الآنسة سخطت وحذّرت من تكرار الأمر.
ربما يجب أن أختم كلامي بالإشارة إلى أني سمعت عن كثير من الخدمات تقدم للآنسات، تشمل حتى تنظيف البيوت والأطفال، وأن ذلك يحصل امتثالاً للآنسة منيرة ذاتها التي تريد أن تتفرغ فلانة( وهي على الأغلب سيدة حسناء من عائلات دمشق العريقة ذات المال والنفوذ المعنويّ على الأقل) للتدريس والنشاطات الدعوية، ولعل من نقلت إلي هذه الأخبار رأت على وجهي بعض علامات الدهشة أو الإنكار فأضافت: لم لا، إنها ناجحة في التدريس وتحبب البنات بالدين والحجاب.
والحجاب هو نهاية المطاف وهو الغاية الكبرى.. فما أن تتحجب البنت حتى تنال شهادة الإيمان والاستقامة والصدق.
ولعل الواحد منا وقد مرّ بشعبنا وأمتنا ما مرّ حتى اليوم؛ ليدركَ أيَّ فقاعة كاذبة كنا نتدحرج في داخلها، ونحن نرقب تكاثر عدد المحجبات.. ونعيش ذلك التصاعد المفزع المحزن في وتيرة التخلف السياسي( وعلى رأسه خنق الحريات) والاجتماعي والاقتصادي والتربوي..ممهِّداً أو مقترناً بهزائمَ متنوعةٍ موجعة على كل صعيد.
كيف؟