الثلاثاء، ٤ جمادى الآخرة ١٤٣١ هـ

( 15) سامحيني يا أمي



سامحيني يا أمي!

 ففي تلك الفترة التي أتحدث عنها كان مفهوم البرّ غائماً غائباً في طيّات مزاعمَ يصعب على طفلة أن تدرك أنها يسيّرها الهوى: هوى أن تكوني مع رفيقات الدرس وأخبارهن وضحكاتهن، هوى أن أكون مع ابنة الخالة نراجع القرآن ساعة..ونتبادل أخبار العائلة ساعة..وأستمع إلى تفصيلات غرامها بآنستها، ومحاولتها قيام الليل بسورة البقرة.
ولو كنت مثلها يومئذ أتكلم بعفوية، لقلت أني كنت أحلم بامتطاء فرس أصيلة، وكتابة القصص الجميلة المسلية..بل كنت أتمنى أن ألبس كل الثياب التي أراها في مجلات الخياطة- وكنت تختارين أحشمها وأعقلها لتخيطي لنا- كنت ألبس كل ثوب على حدة قبل نومي، وأتزين بالمجوهرات المناسبة.. وحدي.. لا أسمع استحسان أحد، ولا ثناء أحد.. كان ذلك يكفيني، أن أكون آنقَ البنات وأرشقهن وأكيسهن، في أحلام لا تنام.
فإذا طلع النهار..وبدأت طقوس الحياة المألوفة المعروفة المفروضة علينا، صرت أشد الفتيات عناداً وغلظة بشأن لباسي.. أريد أن ألبس ما لم يفصَّل لأحد بعد، أريد أن أبدو على هيئة لم يخلقني الله عليها، ومن هنا جنحت إلى ملابس الحياد، تمسكت بالزيّ المدرسي معظم الأوقات خارج المدرسة، وجدت فيه الأمن والبقاء خارج المنافسة.
سامحيني يا أمي!
 حرمتك بهجة البنت الكبرى زمناً.. لم أسمح لك بالتباهي بي، ولم أساندك بالقدر الذي أتمناه الآن.. طال أوان طفولتي خوفاً من أنوثتي..... وكبرت كثيراً في مساحات أخر.
كم مرة صفقت باب البيت مسرعة إلى ( الدرس) وصوتك ورائي: ماذا لو اعتذرت اليوم.. قولي لها كنت أساعد أمي.
معقول؟ كيف أجرؤ على عذر كهذا..
كم مرة تأفّفتُ من أعمال المنزل: فعليَّ قدر من القرآن لابدَّ من حفظه..كانت الخادمة المقيمة ترفاً لا تجده إلا في الأحياء المترفة التي نمر عليها للفرجة..
كان البرّ عند القبيسيات برَّ الآنسة، والطاعة للآنسة، والتهذيب والأدب الجمَّ مع الآنسة..
كيف تضيع الاتجاهات هكذا؟هل سلّمناهن جميعاً زمام تفكيرنا وعواطفنا ومشاريعنا وأحلامنا.. ألم نغدُ كما أردنَ: كالميت بين يدي غاسله.
 كيف حدث هذا ويحدث.. ماسرّ هذه الطفلة الراكضة نحو صباها، حين تسلم أفكارها لمن تكبرها سناً وتجربة.. تخاطبها باسم الدين، فتنقاد بسهولة وسرور.. ألأنه خطاب الفطرة؟ فكيف ُألقيَ فوقه كلُّ هذا الزخرف والقشور البراقة التي تعشي العينين عن الحق والحقيقة؟
ولم تكوني شديدة الغضب مني، إنما هي الشكوى، والصبر على البنت الكبرى التي اعتادت بيوت الشام أن تجعل منها سيدة صغيرة ولو قبل الأوان..
ولأنك كنت مثلي يا أمي تخشين أن يكون أي اعتراض وأي انتقاد يعني اعتراضاً وتمرداً على الدين.. لم نستطع أنا وأنت أن نفهم المعضلة ونفكر في حلّ.
هل جعلنني أكره نفسي خارج دوائرهن.. فأنا بينهن لن أكون أنا، سأكون إلكتروناً يدور في فلك النواة، دون خيار، دون مسؤولية، ودون تفكير.. إلا في أن أدور باستمرار وعلى الصورة التي تكفل دوران هذه الكتلة الهائلة من الطاقة دون توقف ولا أي قدر من الفوضى..
لست أزعم أن كل بنت يصيبها ما أصابني، غير أني أنصح بالعناية الشديدة بأولئك البنات الطيبات البريئات ذوات الحساسية والمثالية وحب الكمال- ما كان أكثرهن في ذلك الزمان الذي لم يعرف الفضائيات ولا الإنترنت -  إذ سيكنَّ فريسة سهلة لعبارات الثناء والمديح وشهادات الإكبار المبالغ فيها، يصبح هذا أشبه بالأوكسجين الذي لا بد منه للتنفس، أما في مجتمع آخر لا يعرفنا أو لا يعترف بنا؛ فنحن مطالَبات بإثبات ذواتنا بأساليبَ أخرى ومهاراتٍ أخرى لا نتقنها..
وكانت معظم الأمهات يشكون من غيابنا، من إهمالنا مظهرنا*، من تجنّبنا الاجتماعات التي لا يكثر فيها عددنا، يشكون من أن كلام الآنسة وأوامر الآنسة وما تحبه الآنسة هو المقياس والفيصل في توجيه سلوكنا..
**
ومهما اتهمت به نفسي من نفور من عمل البيت عموماً، إلا أني بعد الانسحاب من بينهن صرت أفضل حالاً بما لا يقاس، وأعلنت فرحك بي ودهشتك من تحولي، كما أعلنت رضاك عني..ِ
**
 رضاك يظللني الساعة، يمسح عن عينيَّ التعب، ويرفع عن صدريَ كلَّ هم.. فماذا أريد بعد؟



* . أما شكاوى الأزواج، فقد تأتي 

الأربعاء، ٢٨ جمادى الأولى ١٤٣١ هـ

( 14) زيارة لم تؤدّ الغرض منها


نَفِدَت الأناشيد، وانتهت الأغنيات، وتكرّر التهليل والصلاة على
النبي( صلى الله عليه وسلم) وجربت الغناء من لم يسبق لها الغناء، بإلحاح من الرفيقات، وتجاوزت البنات نشوة الانتظار العذب، ولم تحضر الآنسة..
لقد مرت ساعة ونصف الساعة على موعد الدرس، زاد التلفّت بعد إطراق، والهمس بعد إنصات.. لقد تأخّرت الآنسة كثيرا..
ثم ظهرت صبيّة على باب الغرفة التي نفترش أرضها كلها، وأشارت إليّ وإلى فتاة في سنّي، عرفت بجمال الوجه والصوت الشجيّ، والتهذيب والتفوق في المدرسة، إلى جانب حرصها على حفظ سور القرآن الكريم.
خرجنا مبهورتَي الأنفاس، لمحنا الآنسة تقف أمام باب الدار ذات الطراز العربي، وتهمس لمن حولها.. أشير لنا بالاقتراب منها، لنخرج معاً..وكانت بانتظارنا سيارة، يدهشني أني لا أذكر هل كان يقودها رجل أم امرأة.. ركبنا مع الآنسة في تعجب وارتباك، دون أن يراودنا أدنى شك في أن لنا في هذه الرحلة من التميّز والاختيار فوق ما تتحمل أعصابنا الغضة، لقد تركت الآنسة بنات الدرس جميعا، ألغت درسها.. لترافقنا إلى مكان ما..
لم نتبادل كلمة، ولم تذكر الآنسة وُجهتنا، وكأنا- وهذا ما أحسّه اليوم- عنصران صالحان للتجنيد، وقد بدأت الإجراءات التي نعرف تلقائياً أنه لا يجوز السؤال عنها.
وصلنا إلى ساحة عرنوس، وقد عرفت ذلك فيما بعد، اتجهنا إلى بناء ما، لن أتعرفه اليوم، نزلنا قبواً تحت الأرض، فاجأتني خزانة أحذية كالتي توجد على أبواب المساجد، وكانت ملأى بتلك الأحذية الجادة الحزينة التي تفضلها القبيسيات، والتي لم أستطع انتعال غيرها بعد تركهن، أول ما لاحظته أن المكان بلا جدران، واسع تتناثر فيه الأعمدة التي فرش ما حولها بالسجاد، تركت معظم مساحة البيت متصلة، بدت مريحة للنظر والنفس( مبدئياً) وبخاصة أن المكان نظيف جداً، وهي خصيصة قبيسية عرفت بها كل المرافق التي تديرها القبيسيات.
على يمين الداخل، متأخراً عن سَمْت الباب، كان ثمّة بضعة حمامات، تذكّر بالمدارس.
كان المكان يعجّ بالبنات بلباسهن المعروف، واقفاتٍ وجالسات، يتهامسن ويتحادثن ويتنادَين، حتى برزت الآنسة منيرة من الجهة اليمنى لباب الدخول، وكنت رأيتها مرتين قبل ذلك، الأولى في جامع الروضة كما ذكرت في أولى الحلقات، والثانية في جامع قريب من بيتنا، يوم دعتنا الجارات في حماس لنرى ونسمع الآنسة منيرة، فذهبت، وراقبت بدهشة كيف تصل إلى مكانها بصعوبة على نشيد طلع البدر علينا، وكيف أن قدميها لا تكادان تمسّان الأرض من كثرة من حولها من النساء، وكيف تتصاعد لهفة النساء لرؤيتها وإلقاء التحية عليها، وتقبيل يدها..مشهد يذكرك بما تراه اليوم من تصرفات الشباب حين يرَون واحداً من المشاهير في الفن أو الرياضة.
بدت لي طويلة ضخمة نسبيا، في ثوب فضفاض سابغ، سمراء في عرفنا في تلك الأيام، تسابقت الفتيات نحوها، ينحنِين على يدها ليقبلْنَها، متصاغراتِ الحجم والهيئة، وهي تمسح رؤوسهن، تسأل وتؤنّب وتعلّق.
قربتني منها آنستي.. كان لابد أن أقبل يدها كالأخريات، رغم نفوري من هذا، لم يكن والداي حريصين على هذه العادة التي لا تزال شائعة حتى اليوم، لكنا كنا- معاشر الصغار- مضطرين لتقبيل عدد وافر من أيدي الأقارب رجالاً ونساء، هذا ما يقتضيه الأدب والتهذيب و( سماع كلام الكبار) وكم صدمَتْ أنفيَ كفٌّ تسارع إلى مساعدتي وأنا أرفعها إلى جبهتي..
أكاد لا أصدق أن هذا كان يحدث*..
وقبل أن أنحني، فوجئت بها- وكأنها أحسّت بتردّدي بفِراسة مخيفة- ترفع كفّي إلى فمها لتطبع قبلة لطيفة على باطنها وتحدق فيَّ بعينين واسعتين نفّاذتين، قائلة: نحن نقبل أياديكم آل فلان، وذكرت جدي لأمي.. الذي شهد له معاصروه وتلامذته حتى اليوم بالعلم والعمل، وكان أبي ممن طلب العلم الشرعي عنده في طفولته وفتوته، لكنه أكد مراراً أن جدي لم يخالف سنة يوماً، ولم يسلك أي سلوك مما يؤخذ على أهل الطرق الصوفية، رغم أنه كان محسوباً على الطريقة النقشبندية!!
كنا معاشر بنات الخالات والأخوال جميعاً، نقابَل من الجماعة بهذا الإكبار حتى لقد قالت إحدى الآنسات لإحدانا( زبالتكم آل فلان، بأكابرنا!!) فكل من ينتمي إلى عائلة جدي، لا بد أن يكون من الأكابر في التدين..وحسبنا الله ونعم الوكيل.
يحضرني الآن سؤال إبراهيم عليه السلام لربّ العزة، إذ قال تعالى" إني جاعلك للناس إماماً، قال: ومن ذريتي؟ قال: لا ينال عهدي الظالمين" البقرة/ 124
***
كان من المفترض دون شك أن أعتبر هذه الزيارة مكافأة وتمييزاً لي عن باقي الرفيقات، أن أفرح وأغتبط بهذا الاختيار..لكني بقيت طويلاً أشعر بالضيق من الموقف الذي وجدت نفسي فيه: كيف تقبل كفي سيدة تبدو أكبر من أمي؟ لم تُحرجني إلى هذا الحد؟
***
يمكنني اليوم أن أقول أن المديح المبالغ فيه والتدليل والتفضيل، كان يسير في خط موازٍ للتوبيخ والتأنيب المبالغ فيهما أيضاً..وذلك بحسب الحالة والحاجة.. وقد نالت الجميلات النصيب الأوفر من المديح والتقريب، وبخاصة حين يكنّ من عائلات ذات نفوذ أو غنى، كان التمسك بهنّ حينها أشد.
أما أنا فقد كنت حفيدة الشيخ فلان، وبنت الأستاذ الجامعي فلان، الذي سيدرّس كل طالبة تقصد كلية الشريعة..وكان إقبالهن عليها كبيرا، كما كنَّ مجتهداتٍ متفوقات.
كان وجودي بينهن واستمراري أشبهَ بصكّ قبول وتأييد من الأستاذ المتميز المشهور، الذي لا يخفى أنه فكرياً على الأقل أقرب إلى خط( الإخوان المسلمون)، وبين الصوفية والإخوان خلافات تصل إلى العقيدة.. لكنها لم تمنع التزاوج والتمازج والتزاور ولو بحذر وحرص ومداراة.
كان تيار الحياة والمصالح وأواصر القربى أقوى.. وكانت القبيسيات هن الفائزات في معظم الأحيان..لأنهن تيار نسائي يدير البيوت كما يديرالرؤوس والقلوب. وللحديث صلة
___________
* لن أفوّت هذه الفرصة لأذكر أن الشيخ"علي الطنطاوي" رحمه الله، كان يقول لبناته( سمعت منهن حين قيّّض الله لي معرفتهن): من قبّلت منكنَّ يد أحد؛ أضربُها..كانت فكرة مذهلة، تجرّعت ما أشعرتني به من مرارة؛ برضا وسرور.

السبت، ١١ ربيع الآخر ١٤٣١ هـ

( 13) رحلة إلى البيت المدهش/ 2


البيت المدهش كان مقصِدَنا، زرته أكثر من مرة، وكنت أتعجب من طريقة بنائه ومن رحابته، فهو ذو مستويات عدة، تتدرج مع الأرض الجبلية التي بني عليها..تدخل من الباب الرئيسي، لنجد بعض الغرف، ثم تجد نفسك تنزل أدراجاً حجرية لتنتقل إلى غرف أخرى، ومساحات أخرى..وهكذا حتى يؤدي بك باب في الأسفل إلى غابة ندية من الخضرة والسكون الذي سيشقه كل ساعتين صوت القطار بصافراته التقليدية، وهديره المؤنس، إنه القطار الواصل بين دمشق والزبداني، وكانت السكة الحديد على بعد خطوات من باب المنزل.
بعد ترك الجماعة، علمت من القريبات أن البيت للشيخ أحمد كفتارو أو أحد مريديه الكبار، وهومخصص لاستقبال التلامذة والمريدين، للترفيه وتأليف القلوب، والخروج من الجو الجاد للدروس العادية.
انتشرت البنات بسرعة وحيوية فائقة، ينظفن ويفرشن البسط والسجاد، وينقلن أواني الطعام...لا أعرف من أحضر كل هذا ومتى، يذكرني هذا بحكايات جدتي، عن أميرة يخدمها الجان، تنتظر ذهاب زوجها( الذي لا يعرف مكانتها أو حقيقتها) إلى عمله، و: تضرب كفاً بكف، فتظهر سبع بنات عم، ينظفن ويرتبن ويطبخن!
بهرتني أولئك البنات، لعلي قدمت بعض المساعدة فأنا بنت مؤدبة مهذبة جداً.. ولا يمكن أن أقف متفرجة..إلا إذا كنَّ قد أعفَينني وقد لاحظن عدم مهارتي..لكني لا أذكر بالضبط.
انقضى النهار في صلوات وأذكار ومواعظ، تنقَّلنا بين أكثر من فِناء ذي شجر وزروع وزهور، وجلسنا في أكثر من غرفة، تجنباً للشمس، تناولنا الفطور، والغداء الذي وصل في وقته..غنت لنا الآنسة بضع مرات، وغنينا معها..تمشينا في البساتين المحيطة بالمنزل..
**
كان ثمة وجوه جديدة، أذكر منهن شابة جميلة رقيقة، تلبس حلة ضيقة من قطعتين، وتغطي رأسها بغطاء حريري صغير..كانت تتكلم بأناقة وتحفظ، والقليل جداً من حركات اليدين.. ذكر لي أنها من سلالة سياسي حكم سورية يوماً، وفهمت أنها ممن يمكن تسميتهن المؤلفة قلوبهن، وأن الغاية من دعوتها تحبيبها بالجماعة وتليين قلبها إلى مزيد من الالتزام..وقد كان، إذ سمعت بعد عُمْر، أنها زوجة فلان الثانية، وهو رجل ثري معروف أصوله إخوانية، وأنها من النشيطات في أوربة بوصفها آنسة قبيسية.
بين قوسين: مفارقة طريفة سبق أن أشرت إليها أوائل هذه الحلقات: حين أراد رجال( الإخوان المسلمون) في سورية الزواج، في تلك الحقبة، لم يجدوا( إذا أصرّوا على المتديِّنة، ولم يصرّوا دائماً) سوى القبيسيات، وبخاصة حين تكون المواصفات المطلوبة عالية: العائلة والجمال، ثم درجة التعليم..
ترى من كان أذكى وأقدر على توجيه المجتمع؟ إذا علمت أنه من شبه المستحيل أن تترك القبيسية طريقها..وأنها على الأغلب ستحول بيتها إلى مقرّ جديد لجماعتها.
ضيفة أخرى لا بد من الحديث عنها: معلمة لمادة التربية الإسلامية، طويلة جهيرة الصوت، ترتدي جلباباً أسود طويلاً أدهشني، لأنه علامة على أنها ليست من جماعتنا.. نحن جميعاً نخرج بمعاطف ينبغي ألا تغطي الكعبين، مهما طالت.
تبين فيما بعد أن الضيفة الجريئة القوية، كانت من الجماعة وتركتها، واتجهت إلى دروس الشيخ ناصر الألباني رحمه الله تعالى، وأنها إما طلبت الحضور لتبقيَ على أواصر المودة، أو لتوجيه النصح..وهذه خطوة جريئة وشجاعة يندر أن تقوم بها فتاة تركت القبيسيات.

( 12) رحلة إلى البيت المدهش/1


مع خيوط الصباح الأولى، توقفت أمام مدخل بيتي تلك الحافلة الصغيرة التي نسميها ميكرو باص، لتقلَّني مع رفيقات الدرس في رحلة نحو بلدة قريبة من دمشق، خضراء حسناء بأرضها وناسها( لعلها عين الفيجة، أو العين الخضراء)

كنت أشعر بالحماس والسرور، ففكرة مغادرة البيت والغياب عنه نهاراً كاملاً مغرية جداً لمراهقة تتهرب من أعمال المنزل، وتحب الثرثرة مع الصديقات، بل وتعتقد أن للصبيان نصيباً من الحرية لا يمكنها الحصول عليه، وبخاصة بعد أن غطت شعرها وسائر جسمها، ونبذت الألعاب الصبيانية التي كانت تشارك بها أخاها تحت السماء، بعيداً عن الجدران والأسقف..وقوانين الأمهات.

الحافلة صغيرة يقودها رجل قد يكون لإحدانا علاقة قرابة به، فأنت تفهمين بمرور الزمن أن الجماعة لديها شبكة علاقات ممتازة، تمكِّنها من تسيير وتيسير وتذليل عقبات كثيرة، قد تظهر في طريق النجاح والانتشار..

**

فوجئت كثيراً بل خفت من سماعي البنات يبدأن الإنشاد والغناء.. يا إلهي أليس هذا حراماً؟ هل يجوز أن يسمع السائق الغريب أصوات بنات محجبات.. قالت إحداهن ببساطة: غناء جماعي لا بأس..

ظللت مرتبكة، وازددت حيرة حين وافقت الآنسة بعد تمنع أن تغني، وقد ذكرت أن الله حباها بصوت نديّ مطرب، مع إتقان كنا نجده لا يضاهى.. قالت إحدى البنات الجريئات، وكانت في المرحلة الثانوية: أرجوك آنسة..ابدئي وسنغني معك..

كنا متجمِّعات حول الآنسة في المقعد الخلفي، لكن الحافلة كما ذكرت، صغيرة، وجعل البنات يكررن: السائق بعيد..سنغني معك، فاستجابت..

يحضرني هنا بيت الشاعر الأعمى بشار بن برد( ت: 168هـ):

ياقومُ أُذْني لبعض الحيّ عاشقةٌ= والأُذْن تعشقُ قبل العينِ أحيانا

لقد استُقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم وصوله إلى المدينة بأغنية عذبة ما زلنا نردّدها حتى اليوم( ويُروى أنها كانت يوم عودة جيش المسلمين من تبوك) غناها الكبار والصغار، والنساء والرجال، فهل الحالتان متشابهتان؟

لا أجد سماع ترحيب بالنبي صلى الله عليه وسلم، تردده مئات الأصوات، يشبه غناء الآنسة، وحتى مجموعة بنات في ميكروباص، ومهما سمعت اليوم أن عالماً أو شيخاً يفتي بذلك، فسأظل أردد: لا بد من ضرورة، ليس صوت المرأة عورة، لكنها حين تغني، تصبح كمن زينت لباسها وجملته بما يلفت النظر إليه، فيكاد اللباس يفقد الغاية منه.

الخطأ واتباع الهوى سمة البشر، وقد يقع بنية طيبة، أو عن طمع برحمة الله، لكن الحكم يختلف حين نتحدث عن جماعة، وعن آنسة قدوة، لابد أن تأخذ نفسها بالأشدّ، لأن الأعين متعلقة بها، والأعناق مشرئبة إليها، وحين يتساهل القائد، فإن تساهل الأتباع يأتي أكبر وأكثر، والله أعلم.

الأربعاء، ٨ ربيع الآخر ١٤٣١ هـ

( 11) قيام ليلة القدر/ 2

إن الذين اتخذوا التصوف طريقة تديُّن وتقرُّب إلى الله؛ سيجدون في كلامي تبسيطاً وجهلاً، لأن لديهم- كما يعتقدون- ما يسوّغون به هذا الأسلوب في الذكر والتقرب إلى الله، لكن ما أعرفه ويعرفه كل مسلم يعود إلى الحديث الصحيح؛ أنه لا يجوز الابتداع في العبادات، وأن الإخلاص في العبادة، سواء كانت شعائرَ أو أفعالاً عادية، يقتضي كثيراً من التحوُّط والتخفّي خوفاً من الرياء..

**

أما عن تلك الركَعات المئة، فلا أصل لها في صحيح السنة، وقد يزعم البعض أنها بدعة حسنة، والردُّ هو نفسه، أن التقرب إلى الله لا يكون إلا وِفق ما شرعه سبحانه وتعالى، والصلاة كتاب موقوت، فلمَ أصلي قضاء خمسة أيام بحجة أني ربما لم أؤد بعض صلواتي على الصورة المطلوبة، وأنها لم تقبل مني؟ أليس في الأمر تنطع وافتراض لاضرورة له؟

ليس لنا، وليس علينا أن نفعل ما لم يفعله محمد صلى الله عليه وسلم، بأية حجة. إن صلاته في الليل معروفة موصوفة بالحديث الصحيح، وباب الخير واسع مفتوح أمام كل منا، نسعى إلى الأجر والثواب، دون أن نخترع ونضيف، حتى لو فعل ذلك ناس في القديم، ووُجد من يقرُّهم عليه..ما الداعي؟ ما الحاجة؟ أليست أسئلة ساذجة.. هل سنزيد أو نزاود على عبادة رسول الله؟

إنما يكون اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، في أن تكون وراءه، تفعل ما يفعل، وتمشي حيث يمشي وتتجه حيث يتجه..لا تسابقه، ولا تحاذيه. صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

**

تخللت الصلوات أيضاً مواعظُ من الآنسة، لا تختلف عن غيرها، في خلط الجِد بالهزْل، والتوبيخ بالتخويف.

لكن قراءة الآنسة( ليست آنستي) للقرآن أثناء الصلوات، كثرت فيها أخطاء أدهشتني، وقد شاركتني الرأي فيما بعد قريبتي، بعد أن ذكرت من فضل الآنسة ونقائها ومنزلتها عند الآنسة منيرة.

**

أما الحادثة التي لا أنساها، والتي افتتحت بها ليلتنا، فهي أن إحدى البنات، وكانت صبية مجتهدة متفوقة، فاجأتها دورتها الشهرية، فأصيبت بحالة تشبه الهستيريا، وجعلت تبكي وتنتحب، وتردد أن الله تعالى غير راض عنها، وأنه لا يريدها في القائمين بين يديه.

جلست الآنسة( أو إحدى المريدات الأكبر سناً) على الأرض، ووضعت رأس البُنيَّة في حِجرها، وجعلت تمسح شعرها، وتهدئ خاطرها وقتاً غير قليل، والبنت تنتحب وتتحسر على نفسها. وهي على الأغلب بقيت معنا تذكر وتستغفر..ولعل ما حصل معها ناجم عن قرب عهدها بالبلوغ، فلم تنتظم دورتها بعد.

بقينا حتى طلوع الشمس، وكان ثمة، بالطبع، سحور لطيف فيه الإكرام والبساطة، ولا أذكر أني دعيت إلى حضور قيام مرة أخرى.

الاثنين، ٦ ربيع الآخر ١٤٣١ هـ

( 10) قيام ليلة القدر/ 1

دعتني صبية من القريبات لحضور قيام ليلة القدر، وكان معظم الناس يعتقدون في تلك الحقبة أن ليلة القدر هي ليلة السابع والعشرين، فحسب، ولم تكن مسألة تحرّي الحديث الصحيح بذلك الشيوع الذي نجده اليوم.. بل إن الأخذ بالضعيف من الحديث كان مسوَّغاً بصورة مبالَغ فيها بدعوى الترغيب والترهيب، مع أن لهذا الأخذ بالضعيف شروطَه، ومن جهتي لا أجد له مسوِّغاً مادام بين أيدينا قرآن يتلى، وحديث صحيح.. ولا أدري لم نكون بعد ذلك في حاجة إلى حديث ضعيف لنرغب ونرهب.

أدخلوني غرفة فسيحة نسبياً، أضواؤها خافتة، تنبعث منها روائح طيبة، لعل أوضحها رائحة النظافة، ولهؤلاء الصبايا في مسائل النظافة والطهارة تشدد يفوق قوانين الفقه.

هذه النظافة الفائقة تؤثر على حواسّ المتعبد ولا شك، وتضفي جواً من الطمأنينة والسرور.

كانت أرض الغرفة مغطاة بسجادات الصلاة مع أغطية لمن أرادت، ومسابحَ.. لم يكن هنالك مقاعدُ وكأن الغرفة فُرِّغت من أثاثها من أجل القيام..

كان علينا أن نصليَ، تؤمُّنا الآنسة، فروض خمسة أيام، مجموعها مئة ركعة، بمعنى أنك تصلين صلاة الفجر خمس مرات، وصلاة الظهر خمس مرات..إلى العشاء، يضاف إليها الوتر حتى تصبح مائة..

يتخلل ذلك الذكر الجماعي مثل تكرار عبارة لا إله إلا الله، والصلاة على النبي( صلى الله عليه وسلم) وربما الإنشاد والغناء.

وقد يقام الذكر وقوفاً، وله أناشيدُ معينة ذات نغَمات متصاعدة، لا تخلو عباراتها مما لا يليق بذكر الله تعالى من مثل قولهم:

صاحِ دعني في سكري= واعذر فالهوى عذري

أنا ليس في سرّي إلا الله= آه آه بسم الله

وهذه القصيدة تبدأ بقولهم:

أنت نسخة الأكوان= فيك صورة الرحمن

فاجمع سور القرآن بسم الله= آه آه بسم الله

صدقوني لا أفهمها جيداً حتى اليوم..هل لكل عبارة معنى، أم فيها رصف كلمات للضرورة..وهل محمد صلى الله عليه وسلم هو نسخة الأكوان، وما معنى أن يكون نسخة الأكوان..

ولما سمعت مني إحداهن بعد مدة كلمات تلك القصيدة قالت: ماهذا؟ هذه ليست من مستواك..ولم أفهم..كنت أحب اللحن فحسب وأحاول التغابي عن المعاني التي تؤرقني، وتبعث في نفسي الكثير من التساؤلات.

**

حين نهضت البنات بإشارة من الآنسة، وتحلقن في دائرة كبيرة..ودعونني للانضمام إليهن والإمساك بيدي الزميلات؛ اضطربت وارتبكت، ووجدت نفسي أفلت يديَّ، لم أستطع مجاراتَهن رغم كل ما أظنه في نفسي من خجل ومسايرة ومطاوعة.. لم أستوعب ولم أتفهم كيف يذكر الله هكذا، وكيف يكون لي الأجر العميم وأنا أقف مستعرضة خشوعي وانسجامي..

لم يلحَّ علي أحد، وجلست على كرسي في زاوية الغرفة، أرقب الأجسام المتمايلة يميناً شمالاً، أمامَ وراء، في انسجام يشبه رقصة جماعية محتشمة ناجحة الإعداد والإخراج والتدريب، وأرقب الوجوه التي ترسم تعابير الوله والوجد والتوق إلى رضا الله أو لقائه أو الفناء فيه..والله أعلم.

وأنا أجزم أن أي إنسان من لحم ودم وأعصاب، لو كان في هذا الموقف لانغمس فيه، وانتقلت إليه عدوى الطرب والانتشاء، ولربما بكى وأغمي عليه، وهذا ما نراه في الحفلات الغنائية من الشباب والشابات.. إن الشعور الجمعي أشبه بتيار كهربائي يسري في الجميع..كما أن الإيقاع المنتظم لضربات الدف أو المزهر التي ترافق هذه الطريقة في الذكر التي تسمى( الحضرة) حين تتخذ طابعاً أكثر جدية، وتكون مقصودة لذاتها، يساعد على تحقيق الانسجام بين ال( ذاكرات!) وال( ذاكرين!) وبالتالي يوحد مشاعرهم وربما أفكارهم.

السبت، ٢٠ ربيع الأول ١٤٣١ هـ

( 9) دمعتان على تنورة الآنسة

السلام عليكم: أعود بعد انقطاع زاد عن سنة..إذ لا زلت راغبة أن أتابع هذا الذكريات..ولو دون تسلسل دقيق

***

لا زلت أعيش صراعاً يتناوب شدة وليناً.. فثمة أمور أخرى كثيرة تشغلني، على رأسها المدرسة التي اعتدت أن أعطيها الاحترام والكثير من الحب أيضاً.
جو الدرس مريح مطمئن، كلنا متشابهات في لباسنا في أحاديثنا في أناشيدنا، فإذا اختلطنا بصديقات المدرسة شعرنا بالاختلاف والغربة، لكنا متميزات بالاجتهاد والستر والأدب، نحن على حق إذ نتبع أوامر الله ونذكره أكثر من الجميع..
لكن لا..أنا لست مثل رفيقات الدرس تماماً، لا أستطيع أن أنجرف مثلهن في عواطفي، لا أستطيع الاستغراق فيما أسمع وفيما أنشد.
ويتكرر لدي ذلك الاعتقاد بأني بنت قاسية القلب، تحتاج إلى الكثير من الصلاة والذكر وأنواع الطاعات حتى يرَّق قلبها.
لكن حادثة عرضت في أواخر الصف الثامن، جعلتني أستبشر وأشعر بغير قليل من البهجة والرضا.

**

كنت مع أبي نحاول العثور على سيارة تعود بنا إلى دمشق، وقد قضينا نهار الجمعة في مصيف مضايا القريب، ربما كانت الأسرة قد سبقتنا، وكان لا بد من عودتنا لأن السبت كان يوم عمل ودراسة.
يزداد الزحام في مثل تلك الأوقات وتندر السيارات.. وكنا ننتقل من رصيف إلى رصيف حين رأيت امرأة تغطي وجهها تكلم أبي.. وإذا به يقول اذهبي معها وأنا سأتدبر نفسي..لما وصلت إلى السيارة وجدت الآنسة..آنسة الدرس في المقعد الخلفي، دعتني إلى جوارها..فلما جلست لا حظت فجأة أن تلك الفسحة ذات الأرصفة التي تنتظر فيها السيارات، تمتلئ بالبنات اللواتي يمكن بسهولة معرفة أنهن من الجماعة نفسها، المعاطف التي تتجاوز الركبيتن قليلاً أو كثيراً، الرؤوس المغطاة إما بمنديل أسود ينسدل على الوجه، أو بأغطية ذات ألوان أخرى تربط من تحت الذقن، إلى جانب طريقة معينة في المشي والحركة..لا زلت أستطيع تمييزها حتى اليوم.
وفهمت أنه كان هنالك نزهة طويلة لبعض الآنسات وبناتهن، اجتماع لم ُأدعَ إليه، لا شك أن الحاضرات على مستوى أعلى، وأهمية أكبر.. لقد قضيت يومي ألهو وآكل وأتمشى.. بينما عدد كبير من البنات مجتمعات في البلدة نفسها حول الآنسات يقرأن القرآن ويذكرن الله وينشدن الأناشيد التي تملؤهن غبطة وراحة نفس..
لا أذكر أني تبادلت الكثير من الكلام مع الآنسة التي أنقذتني من التأخير، بل ساد الصمت معظم الوقت الذي يقارب الساعة.. لكن أفكاري لم تخرج عن ذلك الإطار: كم أنا مقصرة، أنا سيئة جداً، ومع ذلك يرسل الله لي الآنسة فأجلس إلى جوارها، هذا شيء تتمناه كثيرات، فلم لا أشعر بأنه يبهجني كثيراً، لمَ أجد مشاعري عادية؟ بل إن الخجل والاضطراب هو الغالب علي..كيف أصبح بنتاً تقية مستسلمة.. وبدأت من جديد أستعرض ذنوبي الكثيرة..وأكثرها وطأة تأخير الصلوات، وعدم الاجتهاد أكثر في حفظ ما حددته لنفسي من القرآن، وقراءة الروايات وقصص المغامرات التي أخفيها عن أبي وأحياناً أمي.. تصاعدت وتيرة اللوم وتصاعد إحساس غامر بالضعف والحزن والندم وقلة القيمة..
وقريباً جداً من بيتي وجدت نفسي ألقي برأسي على حضن الآنسة، كان معطفها الكحلي يكشف تنورتها الرمادية ذات الكسرات، وهو اللباس الغالب للآنسات بخاصة، كن لا يلبسن إلا البلوزة ذات الكمّ الطويل والتنورة ذات الكسرات التي تخفي كل معالم وتفاصيل الجسم حتى تحت المعطف.. ونشجت..وأفلتت من عيني بضع دمعات..
وكانت ردة فعلها لطيفة وذكية، إذ بعد أن رفعت رأسي بسرعة قالت بصوتها الناعم وبلهجة يمكن أن توصف بأنها تقطر عذوبة ورقة وتفهماً: هكذا تفعلين بتنورتي؟ انظري..
كان هنالك بلل بسيط جداً على التنورة.. توقفت السيارة ونزلت بعد إلقاء السلام..
كنت أريد أن أطير..بل كنت في حال تشبه الطيران، وكان من عادتي أن أقطع المسافة من البوابة الرئيسة إلى باب بيتنا ركضاً، لقد تخففت من عبء كبير، لقد رأت الآنسة دموع ندمي، أنا بنت صالحة تخاف الله إلى درجة أنها تتمنى البقاء دائماً مع آنسة الدرس وزميلات الدرس طول الوقت.
جرعة أو نشوة البهجة تلك لاتدوم في العادة طويلا، ولا شك أني انصرفت بعدها إلى شؤوني، إلى مغامرات طرزان أو سوبرمان، أو قصة استعرتها من المدرسة، أو واجب مدرسي مؤجل.غير أني على الأرجح صليت المغرب بصورة أفضل قليلاً.
كنت أتجاوز الثالثة عشرة قليلاً، وهي تلك السن التي أسميها اليوم( قيد أو تحت الإنشاء) مستخدمة الإنجليزية من باب المزاح: under construction