السبت، ١١ ربيع الآخر ١٤٣١ هـ

( 13) رحلة إلى البيت المدهش/ 2


البيت المدهش كان مقصِدَنا، زرته أكثر من مرة، وكنت أتعجب من طريقة بنائه ومن رحابته، فهو ذو مستويات عدة، تتدرج مع الأرض الجبلية التي بني عليها..تدخل من الباب الرئيسي، لنجد بعض الغرف، ثم تجد نفسك تنزل أدراجاً حجرية لتنتقل إلى غرف أخرى، ومساحات أخرى..وهكذا حتى يؤدي بك باب في الأسفل إلى غابة ندية من الخضرة والسكون الذي سيشقه كل ساعتين صوت القطار بصافراته التقليدية، وهديره المؤنس، إنه القطار الواصل بين دمشق والزبداني، وكانت السكة الحديد على بعد خطوات من باب المنزل.
بعد ترك الجماعة، علمت من القريبات أن البيت للشيخ أحمد كفتارو أو أحد مريديه الكبار، وهومخصص لاستقبال التلامذة والمريدين، للترفيه وتأليف القلوب، والخروج من الجو الجاد للدروس العادية.
انتشرت البنات بسرعة وحيوية فائقة، ينظفن ويفرشن البسط والسجاد، وينقلن أواني الطعام...لا أعرف من أحضر كل هذا ومتى، يذكرني هذا بحكايات جدتي، عن أميرة يخدمها الجان، تنتظر ذهاب زوجها( الذي لا يعرف مكانتها أو حقيقتها) إلى عمله، و: تضرب كفاً بكف، فتظهر سبع بنات عم، ينظفن ويرتبن ويطبخن!
بهرتني أولئك البنات، لعلي قدمت بعض المساعدة فأنا بنت مؤدبة مهذبة جداً.. ولا يمكن أن أقف متفرجة..إلا إذا كنَّ قد أعفَينني وقد لاحظن عدم مهارتي..لكني لا أذكر بالضبط.
انقضى النهار في صلوات وأذكار ومواعظ، تنقَّلنا بين أكثر من فِناء ذي شجر وزروع وزهور، وجلسنا في أكثر من غرفة، تجنباً للشمس، تناولنا الفطور، والغداء الذي وصل في وقته..غنت لنا الآنسة بضع مرات، وغنينا معها..تمشينا في البساتين المحيطة بالمنزل..
**
كان ثمة وجوه جديدة، أذكر منهن شابة جميلة رقيقة، تلبس حلة ضيقة من قطعتين، وتغطي رأسها بغطاء حريري صغير..كانت تتكلم بأناقة وتحفظ، والقليل جداً من حركات اليدين.. ذكر لي أنها من سلالة سياسي حكم سورية يوماً، وفهمت أنها ممن يمكن تسميتهن المؤلفة قلوبهن، وأن الغاية من دعوتها تحبيبها بالجماعة وتليين قلبها إلى مزيد من الالتزام..وقد كان، إذ سمعت بعد عُمْر، أنها زوجة فلان الثانية، وهو رجل ثري معروف أصوله إخوانية، وأنها من النشيطات في أوربة بوصفها آنسة قبيسية.
بين قوسين: مفارقة طريفة سبق أن أشرت إليها أوائل هذه الحلقات: حين أراد رجال( الإخوان المسلمون) في سورية الزواج، في تلك الحقبة، لم يجدوا( إذا أصرّوا على المتديِّنة، ولم يصرّوا دائماً) سوى القبيسيات، وبخاصة حين تكون المواصفات المطلوبة عالية: العائلة والجمال، ثم درجة التعليم..
ترى من كان أذكى وأقدر على توجيه المجتمع؟ إذا علمت أنه من شبه المستحيل أن تترك القبيسية طريقها..وأنها على الأغلب ستحول بيتها إلى مقرّ جديد لجماعتها.
ضيفة أخرى لا بد من الحديث عنها: معلمة لمادة التربية الإسلامية، طويلة جهيرة الصوت، ترتدي جلباباً أسود طويلاً أدهشني، لأنه علامة على أنها ليست من جماعتنا.. نحن جميعاً نخرج بمعاطف ينبغي ألا تغطي الكعبين، مهما طالت.
تبين فيما بعد أن الضيفة الجريئة القوية، كانت من الجماعة وتركتها، واتجهت إلى دروس الشيخ ناصر الألباني رحمه الله تعالى، وأنها إما طلبت الحضور لتبقيَ على أواصر المودة، أو لتوجيه النصح..وهذه خطوة جريئة وشجاعة يندر أن تقوم بها فتاة تركت القبيسيات.

هناك ٣ تعليقات:

جمان يقول...

كتبت تعليقين وعدت فمسحت ما كتبت. تنازعتني أفكار عدة: هل كان ذلك الزمن أكثر وضوحا من زمننا هذا؟ أشعر أن الأشياء الآن أكثر التباسا وانغلاقا علينا.. أحس أن هذه الأمور صارت أصعب. من صديقاتي العزيزات من كنّ يحضرن في هذه الدروسن ومنهن من لها آنسة إلى الآن. ولا أناقش معهن هذا أبدا، فأنا لا أجد في تصرفاتهن أو أفكارهن شيئا يشير إلى ذلك. كأنه عالم منفصل عن عالمنا.ولا أعرف حقا هل سبب التزامهن حقيقة وحده هو حفظ القرآن؟ أم هنالك جاذبية لا يستطعن الانفكاك منها؟

فاطمة يقول...

أعتقد أن الامور كانت أكثر تمايزاً ووضوحاً، كان التنظيم وليداً يدهش الناس، لكن في الوقت نفسه كان كثيرون متنبهين لطبيعته وإن لم تتضح المآخذ دفعة واحدة، حتى بدأ الأهل والازواج يشكون.. وقبل أن أتابع أود أن أستوضح منك عما تقصدينه بقولك: لا أجد في تصرفاتهن شيئاً يشير إلى( ذلك)

جمان يقول...

أعني يا خالة أن لا شيء في تعاملهنّ، في الجوانب التي أراها من شخصياتهن..تشير إلى وجود شخصية أو مجموعة القلب معلق بهن ولا يستطيع الفكاك عنهن. عرفت ذلك عن طريق أخريات حضرن معهن وتركن.. وحين المحت لرفيقاتي بذلك تجنبن الحديث عن الموضوع وكأنه سر أو خطأ. هذا ما يثير عجبي. لماذا التخفي إن كانت القناعة بأن ما يقمن به صواب؟